دعونا أوّلاً نحاول الإحاطة بمفهوم التفكّك والتفكيك.
المقصود بالمفهوم هنا هو محتواه في حقل العلوم الاجتماعية، وليس بالمعاني التقليدية، وخصوصاً الفكّ والتفكيك الذي عادة ما يقترن بالتركيب.
وحتى الفكّ والتركيب فإن استخدام المصطلح بالتقارن فيما بينهما شائع الاستعمال أو الاستخدام في المجالات الاجتماعية، وفي مجالات أخرى كثيرة ومتشعّبة بما فيها عندما يتعلّق بإعادة الإحياء أو استعادة الدور والمكانة.
لكن الجوهري هنا أن ثمّة فرقا كبيرا وهائلا أحياناً بين أن تتمّ عملية التفكّك وأن تتمّ عملية الفكّ والتركيب، لأن الأولى هي موضوعية، تجري عادةً بمعزل عن دور العامل الذاتي، الهادف والواعي للوصول إليها أو إنجازها، فيما أن الثانية هي مقصودة وواعية، وتجري في إطار فعل هادف سابق التخطيط، ومحدّد بالوسائل والأدوات.
نحن هنا أمام حالة، وقد تتحوّل إلى ظاهرة في المدى القريب العاجل، هي أشبه بالتداعي والتحلّل والتصدّع والانهيارات التي تصاب بها، أو تجري للبُنى السياسية والاجتماعية بما فيها الأحزاب والمنظومات والدول نفسها، وبما يصل في هذا التداعي والتصدّع والانهيار إلى الأفكار والمبادئ والأيديولوجيات المؤسّسة والموجّهة التي لعبت الدور المحوري في تأسيس هذا النوع من البُنى التي أشرنا إليها.
صحيح أن الكثير من عناصر هذا التفكّك كانت قد ظهرت مقدّماتها قبل «طوفان الأقصى»، وكانت ملامحها الأوّلية قد بدأت بالبروز بصورة جلية في ضوء التداعيات التي تولّدت عن «الانقلاب القضائي»، وصحيح أن هذا «الانقلاب» كان فعلاً من الخطورة والحساسية على مجتمع خاص بكل المعاني وأعمقها كالمجتمع الإسرائيلي، إلّا أن الأمور لم تصل إلى ذروة فاصلة، وبقيت تجلّيات هذا «الانقلاب» بين أخذٍ وردّ دون أن تتبلور باتجاهات حاسمة بالرغم ممّا بلغته الاحتجاجات من زخمٍ كبير، وبالرغم من التصدّعات التي طالت مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، ومن التصدّعات الكبيرة والحادّة على مستوى الثقافة والفكر والأيديولوجيا على وجه التحديد والخصوص.
كما أنه صحيح كذلك أن هذا «الانقلاب» قد أثار حفيظة فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، أُفقياً وعمودياً، وأنه قد تمّ التعبير عن مقاومة واسعة له في كل الاتجاهات، وعلى مختلف المستويات، إلّا أنّ حالة الاستقطاب الحادّة داخل المجتمع الإسرائيلي لـ»يمين» متطرّف تحوّلت ثقافته إلى ما يشبه الثقافة السائدة بقدر ما يتعلّق الأمر بالصراع ما بين دولة الاحتلال و»أعدائها» قد حالت دون «إدراك» كل الفئات التي قاومت، أو حاولت أن تقاوم هذا «الانقلاب» العلاقة العضوية والصميميّة بين توجّهات هذا «اليمين» بـ»الانقلاب القضائي» وما بين إستراتيجية حسم الصراع، والتوجّه نحو تصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها، أو لنقل بسبب طغيان ثقافة «اليمين» السياسية.
لم تتغيّر هذه الصورة، ولم تدرك قوى «مقاومة» «الانقلاب القضائي» أن «الانقلاب» إضافةً إلى الأسباب «الداخلية» الإسرائيلية كان في صلب الأهداف الجوهرية منه التمهيد لحسم الصراع، والتخلّص من أي معارضة مستقبلية لهذا الحسم، وهو حسم كان يحتاج من وجهة نظر «اليمين» لتحضير معركة تصفية القضية الفلسطينية لاحقاً، خصوصاً وان «فكره» كان يستند إلى مقدمات كبيرة تسهّل الانقضاض على الشعب الفلسطيني بعد أن كان الانقسام الفلسطيني قد بلغ مداه، وبعد أن وافق العرب على مسار «التطبيع»، بما في ذلك النسخة «الإبراهيمية» منه، وبعد أن أصبحت أوروبا كلها، وتحوّلت إلى تابع «ذليل» لأميركا، وفقدت معظم عناصر تميّزها عن مواقف الإدارات الأميركية حيال الصراع في منطقة الإقليم، وكادت بالكامل تتماهى مع الأطروحات الأميركية، وأحياناً الإسرائيلية حيال مجريات هذا الصراع.
تمّ التطرّق من قبل العديد من الكتّاب إلى طبيعة الأزمة التي تعرض لها المشروع الصهيوني جرّاء هذا «الانقلاب»، بمن فيهم الكتّاب من داخل المؤسّسات الإسرائيلية الرسمية والحزبية والأهلية والإعلامية، واهتمّ البعض في أميركا وفي أوروبا بهذا المتغيّر الكبير، وذلك بالنظر إلى تقديرات متفاوتة حول أثره على مستقبل المشروع الصهيوني، وعلى دولته وعلى عموم تجلّيات هذه الأزمة في كل الاتجاهات الداخلية والخارجية.
وقد ساهمنا كما ساهم غيرنا في معالجات تتعلّق بهذه الأزمة قبل «الطوفان»، وحاولنا أن نلقي الضوء على مسار هذه الأزمة بُعيد اندلاع الحرب العدوانية وأثناء اشتداد إوراها وإلى أن «توقّفت» عند حدود فشل الدولة العبرية في التهجير والاقتلاع، كهدف كبير للحرب الوحشية على الشعب الفلسطيني، وعند وضع حدّ للإبادة الجماعية والتطهير العرقي حتى الآن، في الضفة والقطاع.
من بين ما لفت انتباهي كان المقال الذي كتبه مؤخّراً الكاتب شوكت الرّاميني لـ»وكالة وطن للأنباء» تحت عنوان «من تكتيك الاحتواء إلى هندسة الحلّ» والذي عالج من خلاله بعض مظاهر «تهاوي وخلخلة ركائز الدولة العبرية».
وما أودّ التركيز عليه هنا هو جملة إضافية من عناصر وعوامل هذه الأزمة التي يبدو أن هناك المزيد من الآراء التي أصبحت «تُسلّم» بأننا لا نتحدث عن أزمة داخلية في حقل السياسة، وإنما نتحدث عن أزمة تتعلّق ببنية المشروع الصهيوني وخلخلة وتصدّع هذه البنية، والتي لن تجد تجلياً لها إلّا عَبر أزمة الدولة الإسرائيلية قبل أي مجال آخر.
ما أحدثه «الطوفان» هو أنه خلخل فعلاً، لا قولاً أبداً جملة من العناصر «الرّاسخة» في بنية النظام الاستعماري للمشروع الصهيوني.
ونستطيع أن نكثّف مكوّنات هذه البنية في مجالات وحقول ومفاصل رئيسية من أهمها الإستراتيجيات التالية:
الأولى، هي إستراتيجية الاقتلاع والتهجير.
نجحت الحركة الصهيونية بالتحالف الوثيق مع الإمبرياليات «الغربية»، وخصوصاً البريطانية والأميركية باقتلاع حوالي مليون فلسطيني في العام 1948، وأحللت في مكانهم القادمين اليهود، وأقامت كياناً كولونيالياً في ضوء هذا الاقتلاع والإحلال.
أعادت دولة الاحتلال الكرّة في حرب حزيران 1967 بوتائر وأساليب أخرى ونجحت في نزوح أكثر من سبعمائة ألف إلى الأردن، وإلى بلدان أخرى.
منذ ذلك الحين تحوّل الاقتلاع والإحلال كإستراتيجية إلى إستراتيجية الاستيطان من جهة، وإلى إستراتيجية الإفقار الجماعي للفلسطينيين في معادلة خبيثة مدروسة بحيث يلعب الإفقار دوراً مباشراً في تحفيز الاستيطان.
وقد بات واضحاً الآن أن أيّ مظاهر في تراخي مقاومة الاستيطان سيعني الإحلال الاستيطاني، وبالتالي ليس دقيقاً، ولا صحيحاً أن «مجرّد» البقاء سيمنع الإحلال، والصحيح والدقيق أن مقاومة الاستيطان بكل الوسائل المتاحة هو السبيل الوحيد، والأنجع لإفشال إستراتيجية الإحلال.
ما زالت هذه الإستراتيجية لم تتخلخل بعد بالقدر الذي تخلخلت به الإستراتيجيات الأخرى، وهو ما يغري بمناقشة المسألة الديمغرافية.
الثانية: إستراتيجية التفوّق والقوّة.
الثالثة: إستراتيجية الإخضاع الإقليمي.
الرابعة: إستراتيجية التحالف الدولي الفعّال.
الخامسة: إستراتيجية الردع النووي.
كل هذه الإستراتيجيات كانت معدّة لظروف، وفي ظروف من مجموعة كبيرة من «الحقائق» و»المسلّمات» و»الوقائع» الثابتة، إن كان على صعيد الرواية الصهيونية، أو على صعيد «ديمقراطية» الدولة العبرية، أو على صعيد الدور المحوري للأخيرة في تأمين مصالح «الغرب»، وبالتالي حماية ورعاية «الغرب» للمصالح الإسرائيلية الخاصة، وصولاً إلى العلاقة مع الإقليم بالقفز عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومع يهود العالم على اعتبار أن الدولة العبرية هي «الممثّل الشرعي» لهم، وصولاً إلى ضبط العلاقات في المجتمع الإسرائيلي، والتعارضات، والتناقضات بناظم الخطر الخارجي، وبناظم «التفوّق والتمايز الحضاري».
في عدّة مقالات قادمة سنحاول معالجة أهمّ مضامينها.