سوف أضطر لتغيير فكرة المقال، وقد كنت في المساء السابق ومع غروب شمسه، أتخيل أنني يمكن أن أتحدث عن الأمل الناهض من وسط الركام والموت في غزة، وحيث أن موسم غزة السنوي قد حلّ وولى، ولم يمر بها للعام الثالث على التوالي، ولكني رغم ذلك كنت أرى الحياة تُصنع فيها من جديد، إلى أن تواترت الأنباء حول تجدّد الغارات وهجمات الموت ثانية على القطاع الحزين الموجوع والمكلوم، ورغم ذلك أعود لأكتب عن أهله لأنهم فعلاً صنّاع الحياة.
عندما تنظر إليهم، وقد تحوّلت كل بقعة من الأرض المحروقة إلى ورشة عمل فعلية، وحيث يقومون بمحاولة رتق الحياة التي تمزقت كل خيوطها وتحولت فعلياً إلى نسيج مهلهل لا يصلح في نظر الآخرين، إلا أن يلقى جانباً، وأن يمر عنه العابرون بنظرة عابرة غير عابئة، فأنت حين ترى محاولاتهم للرتق والإصلاح، وبأضعف وأبسط الوسائل سوف تتأكد فعلياً أنهم لا يُقهرون ولا يستسلمون، وسوف تعرف أنهم ليسوا خارقين وليسوا أيضاً كائنات قد هبطت من السماء على الأرض، بل هم أناس بسطاء وبائسون، وقد وعوا وتعلموا الدرس جيداً، وهو أن لا أحد سوف يطبطب على جراحهم غيرهم، وأن لا أحد سوف يداوي قلوبهم غيرهم، ولا أحد سوف يساعدهم كي يستمروا ويكملوا ما تبقى من حياتهم من أجل أطفالهم إلا هم أنفسهم، ولذلك فهم يبحثون عن بقايا حياة وسط كل صور الموت.
تلتفت حولك وترى الركام والأنقاض، ولكنك حتماً سوف ترى نبتة خضراء تشق الأرض أو تحاول أن ترفع رأسها من بين كومة من الحجارة القاسية المهدمة، فتتأكد ان الطبيعة تحبهم وتشفق عليهم حتى حين تضن عليهم بموسمهم المحبب، والذي كانوا ينتظرونه مرّة كل عام، فغابت طقوس قطف الزيتون، وأصبحت أيامه ذكريات في خيال، فأشجار الزيتون اقتلعت، وربما سُرقت بضمها إلى ما خلف ما صار يُعرف مؤخراً بالخطوط الصفراء، وهناك أشجار أُحرقت لكي تصبح حطباً للأيام الشتوية، وحيث لم يكن هناك وسيلة للتدفئة ولا حتى طريقة لطهي القليل من الطعام، إلا إشعال النار بالجذوع التي كانت تحمل ذاكرة السنين وتروي حكاية شعب تكالبت عليه كل القوى، ولكنه ظل محباً للحياة مهما بدت صعبة ومستحيلة، لأنه واثق من قدرته على صنعها مهما تجبر الوحش الآدمي وآلاته في وأد كل السبل إليها.
في غزة، عليك أن تلتقط أنفاسك لأنك سوف تكتشف أن الناس لا حيلة لهم هناك إلا ان يستمروا وأن يتعاونوا معاً لكي يصنعوا من لا شيء كل شيء، وإن غابت المواد الأساسية فهم يخترعون، وإن كانت الحاجة أُم الاختراع فالحاجة في غزة، هي الأم والأب لكل ما تراه حولك من محاولات لمد جسورٍ متواصلة ومستقيمة قد لا تلتقي، ولكنها تجري كأنهر صغيرة نحو هدف واحد ولسبب واحد أن لا أحد معنا ولكننا باقون.
في غزة عليك أن تقرأ الإصرار في الوجوه المتعبة التي لم تعد قادرة على الشكوى، ولكن الأيدي تتحرك رغم أنها منهكة ومشققة، وتحاول أن تبقى قوية وقادرة حتى لو كان ذلك أمام الصغار الذين يرتجفون كأوراق الخريف الجافة فوق الأرض القاحلة وهم لا يعرفون طريقاً، ويسيرون بلا هدى بعد عامين من القتل المنظم والمرتب والمركز فوقهم ومن تحت اقدامهم ومن على شمالهم ويمينهم.
في غزة يجب أن تدرك أن ضياع موسم الزيتون مؤلم لكل من عشق هذا الموسم، وأن غياب موسم البلح كذلك، وأن الأرض التي أصبحت قاحلة لا تقول لهم اتركوني ولكنها تناديهم وتقول لهم انبشوني، وهم يلبون النداء ويصنعون المستحيل ويعودون إلى ركام ورماد، لكنهم لا يتوقفون، ويعرفون جيداً ان كل ما حولهم سوف يذهب ويتغير، وسوف تعود غزة الخضراء اليانعة، وكل ما يرونه ربما كان حلم ليلة صيف أو كابوساً من كوابيس آخر الليل، لأنهم باختصار هم عشاق تلك المدينة، وعشاق ذلك الشريط الضيق الرابض والمرابط أمام البحر، والذي تعلموا منه معنى كلمة البقاء، فالسفن تمر فيه وتمضي وهو الباقي الذي يروي الحكاية، كل الحكاية.