في زمنٍ قديمٍ جداً، شخصٌ ما تقاتل مع ابن عمٍ لي لسبب لا نعلمه، تقاذفا بالحجارة وتضاربا حتى الدم وسط المدينة. عاد ابن عمي إلى المخيم وهو يصيح فينا: «يا ولاد عمي وينكم، في واحد ظربني قتلة، ونزل دم راسي». لن أنسى ذلك الليل الدموي، هب أبناء العمومة في المخيم، متضامنين مع ابن العم دون حتى أن يسألوا عن تفاصيل ما حدث، ركبوا حافلتين، ملؤوهما بالصياح والعصي، وانطلقوا غاضبين إلى أحد أحياء المدينة، وهناك سمعت بوضوحٍ صياح النسوة والأطفال، بعد أن هرب الرجال، وهن يحاولن تفادي حجارة أولاد عمي، بإغلاق الشبابيك، وبالصياح الاستجدائي من الأسطح. رويت هذه القصة للأصدقاء عشرات المرات، في كل مرةٍ كنت أخفي معلومة مخجلة، وهي أنني كنت واحدًا من أبناء العم البُلهاء الذين ركبوا إحدى الحافلتين وصاحوا ولوّحوا بالعصا.
تلك كانت إحدى البقع المظلمة التي لم يعد لها وجود في داخلي، كل منا فيه تلك البقعة العشائرية المرعبة. منا من يقتلها بالموسيقى والسفر والدين الحقيقي والمسرح والكتب، ومنا من يُبقيها داخله تماماً مثل قريب لي من جهة أمي وهو فنان؛ رأيته في مشهد مروع ومضحك في آن يتباطح مع بائع خضار عجوز وسط رام الله لخلاف سخيف حول السعر.
حينها عرفت أن ليس كل من لبس قميص السفر والدين والموسيقى قادر على قتل بُقع الظلام داخله.
ما الذي أريده من هذا النص الاعترافي؟ هل أريد مثلاً ان أهنئ نفسي على رفضي ركوب باص حَمولتي قبل أيام وهو يسرع إلى حَمولة أخرى في قرية مجاورة، محمّلاً بالشتائم والعصيّ والسكاكين لينتقم من شاب من تلك الحَمولة تجاوزت سيارتُه سيارة شاب من حَمولتنا، فتعارك الشابان وسط شارع رئيسي. وأُصيب شاب حَمولتنا بجراح قوية في وجهه؟ أم هل أريد أن استنتج أن هذا السخط العشائري السخيف هو أحد أسباب ضياع البلاد؟ أم هو تعبير عن يأس مستحكم وضجر عميم يملأ حياتنا من كل شيء؟
كنت أرى الباص يطير صاخباً بالزوامير والدخان الأسود بينما أغلقت أنا باب بيتي. لائذاً بكتاب (حيوَنة الإنسان) للعظيم ممدوح عدوان.
ثم صعدت إلى السطح ونظرت طويلاً إلى مستوطنة بيت إيل وسمعت صوتاً داخلي يتحدث معي؛ مَن بنى هذه المستوطنة يا زياد؟ أهو فقط ضعفنا وانقسامنا ومؤامرات العرب وتكالب الاستعمار علينا؟ أم أن هناك أسباباً أخرى مثل عشائريتنا وجهلنا وهشاشةِ روحنا وعُقدِنا النفسية وصِغر عقولنا؟