تاريخ النشر: 13 تشرين الثاني 2025


آراء
تفكّك إستراتيجية الهيمنة الإسرائيلية
الكاتب: عبد المجيد سويلم

لولا الاختراق الكبير الذي أحدثه سقوط النظام السوري السابق، ولولا المصادفات، وتشابكات المصالح الإقليمية والدولية التي أدّت إلى هذا السقوط، والتقاطعات الدولية والإقليمية التي «تكاملت» أدوارها في الوصول إلى هذا الاختراق الهائل، وخصوصاً استعداد النظام الجديد للخضوع الكامل لإرادة ورغبة هذا «التحالف» الدولي والإقليمي الذي اشترك وتشارك، وتكاملت أدوار كل طرف مع دور كل طرف من أطرافه.. لولا هذه المصادفات كلها لما أمكن الحديث أصلاً عن أي تغيرات جوهرية في اتجاه تطور الأحداث، إن لم نقل أن الاتجاه الجديد في هذه الأحداث بالرغم من هذا الاختراق إنما يسير بالاتجاه المعاكس لرغبة «الغرب»، وللأطماع والطموحات الإسرائيلية، وإلى حد ما معاكس، أيضاً، لتنميات النظام العربي والإسلامي نفسه.
كتبنا في مقالات عديدة سابقة عن «الشرق الأوسط الجديد» كمفهوم، كسياق سياسي وتاريخي، وكمحتوى وواقع سعى للوصول إليه «التحالف الغربي» منذ سنين طويلة، وكانت دولة الاحتلال دائماً، وفي كل المراحل، وعند مختلف التطورات في موضع الوجود والتواجد المركزي الخاص والمميز في هذا «الشرق الأوسط الجديد».
والحقيقة أن الأخير طُرح بإلحاح خاص من قبل القيادتين الأميركية والإسرائيلية بصورة تكاد تكون متطابقة، من حيث الجوهر والأهداف، وفي المراحل المختلفة، وبما يوحي ويؤشر ليس على درجة التوافق والتنسيق بينهما، وإنما على مستويات أعلى وأكبر في الحقل التطبيقي والتنفيذي المباشر.
وبالعودة إلى أحدث مفاهيم «الشرق الأوسط الجديد» فإننا نلاحظ أن الإلحاح عليه في الأدب السياسي الأميركي والصهيوني الإسرائيلي قد ترافق وتزامن مع أزمات وإخفاقات «الغرب» بعد استنفاد مرحلة ربح «الحرب الباردة»، وبعد الإخفاق في «الحرب الغربية» على روسيا، وبعد النجاحات الكبيرة، والقفزات العملاقة للاقتصاد الصيني، وبعد أن دخل العالم في مرحلة توحّش «النيوليبرالية الجديدة»، وبعد تنامي الشكوك في قدرة الاقتصادات «الغربية» على كبح جماح تباطؤ النمو الاقتصادي، والحدّ من أزمات التضخّم، والإرباكات في أسواق الطاقة والمال، وغيرها من مظاهر التراجعات على هذا الصعيد، وعلى كل صعيد.
تضخّمت شهيّة الاحتلال نحو «الشرق الأوسط الجديد» بصورة خاصة في مرحلتي «الترامبية» الأولى والثانية، واطمأن «اليمين الكهاني» أن «الترامبية الجديدة» ستحوّل هذا المشروع إلى مشروع أصبح على جدول الأعمال المباشر، وأصبح الشروع في فصوله في الضفة الغربية هو الفصل الخاص في الشروع العملي لتنفيذه وتطبيقه على الأرض، وأصبح حسم الصراع بدلاً من إدارته هو الإستراتيجية المباشرة لحكومة، أو حكومتي «اليمين الكهاني» والعنصري، واعتبرت القيادات الإسرائيلية أن «التطبيع الإبراهيمي» هو عنوان المرحلة الجديدة في كامل الإقليم.
استندت الرؤية الإسرائيلية إلى أرضية «صلبة» في مرحلة هيمنتها «المتوقّعة» على الإقليم، على الأقل في ثلاثة محاور أساسية:
 المحور الأوّل، حالة الانقسام الفلسطيني وما وصلت إليه من مأسسة تحولت إلى «مصالح» انقسامية أصبحت تعبّر عن نفسها في نهج متكامل يقوم على الذرائعية السياسية في رفض مبدأ إنهائه، ووضع العراقيل العلنية أمام أي محاولات وطنية فلسطينية لتجاوز آثاره وتبعاته المدمّرة.
المحور الثاني، هو القبول العربي الرسمي بـ»التطبيع» مع دولة الاحتلال دون أن يتم الوصول إلى حل سياسي يستجيب للمصالح الوطنية الفلسطينية، وبذلك تحققت لدولة الاحتلال وللمرة الاولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي فرصة غير مسبوقة للإجهاز على هذه الحقوق، وتحويل الأهداف الوطنية الفلسطينية إلى مجرّد قضايا اقتصادية، وإلى مجرّد احتياجات معيشية.
في هذه الأثناء برزت قضايا جديدة، ومصطلحات جديدة إلى قاموس ما يسمى بـ»الحل السياسي» والذي أصبح يعرف بـ»السلام الاقتصادي».
لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تجاوزته بمسافات كبيرة وجديدة عندما طرح بتسلئيل سموتريتش رؤيته الجديدة للتعامل مع السكان الفلسطينيين في الضفة حين خيّرهم بين الخضوع التام، والقبول بالشروط الإسرائيلية لـ»الحل الاقتصادي»، وبين الاعتقال والسجن أو الموت، ثم الطرد من الأرض الفلسطينية إذا لزم الأمر.
المحور الثالث، وهو المحور الدولي، والذي تحول إلى مقاومة خجولة للرؤية الإسرائيلية، وبالرغم من معارضة الاتحاد الأوروبي للنهج الفاشي في دولة الاحتلال، إلّا أنه بقي عند حدود الرفض اللفظي، وعند مستوى التعبير «الخطابي» عن شكل التعارض أو الاعتراض على مثل هذا النهج.
وقد تعزّز هذا الواقع الدولي مع المواقف الذيلية التي اتخذتها أوروبا في أوكرانيا، وفي مناطق أخرى من الصراعات العالمية حتى أصبح الصوت الأوروبي هو مجرّد صدى للمواقف الأميركية.
بل وأبعد من ذلك اقتضى الأمر حسم الصراع، وأصبح هذا الحسم يتطلب إجراء التعديلات «الضرورية» في بنية النظام السياسي في دولة الاحتلال، ومن هنا، وعلى هذا الأساس بالذات شرع «اليمين» العنصري ببرنامج «الانقلاب القضائي». تلك كانت الرؤيا الإسرائيلية، وذلك كان الواقع الذي استندت إليه دولة الاحتلال لحسم الصراع، بهدف أن تتحول الأخيرة إلى دولة إقليمية مهيمنة على الإقليم بشروط أميركية حامية وراعية لدور الهيمنة، وبما يستجيب، ويؤمّن المصالح والطموحات الإسرئيلية الخاصة، وعلى قاعدة أن الدور الوظيفي الإسرائيلي هو الكفيل بتأمين المصالح العليا لأميركا، وأن لا تناقض مطلقاً بين أن يتم بناء «الشرق الأوسط الجديد»، وأن يكون هذا المشروع في جوهره أداةً مباشرة للهيمنة الإسرائيلية بموافقة عربية وإسلامية، وبرعاية أميركية «غربية». حدث كل هذا قبل «طوفان الأقصى»، وتمهّدت الطريق من وجهة نظر «الغرب» لبناء المشروع من على هذه الأسس، وهذه القواعد.
وما دمنا نتحدث عن الرؤى الإستراتيجية للصراع في الإقليم، وعليه فإن الدور الإسرائيلي حتى ذلك الحين هو دور رأس الحربة في التقدّم المباشر، والشروع الفعلي بفصول المشروع. كل محاولة لفصل «الطوفان»، هي محاولة فاشلة وقاصرة وساذجة، أيضاً.
يمكن أن تساق عشرات الأسباب الخاصة التي وقفت خلف «الطوفان»، وقد تكون هناك تجاذبات وتشابكات إقليمية متعارضة ومتناقضة قد دخلت على خطه، لكن الاعتقاد بأن هذه الأسباب، وهذه التجاذبات والتشابكات هي السبب الحقيقي لما أقدمت عليه حركة حماس بالمبادرة إليه هو اعتقاد لا ينبغي تماماً لعلم السياسة، وهو اعتقاد تكمن في حقيقته عشرات أخرى من الأسباب التي تعمل جاهدة لمجافاة الحقيقة والالتفاف عليها.
الحقيقة أن الدور الإقليمي لدولة الاحتلال قد بدأ بالتفكّك على أكثر من صعيد، وعلى أكثر من مستوى، وفي مختلف المجالات.
على الصعيد العسكري والميداني فقدت دولة الاحتلال دور الجيش القادر على القتال في «أراضي العدو»، وانتهت وإلى غير رجعة قدرته على حسم القتال في أقصر وقت، واحتاجت دولة الاحتلال إلى أكثر من عامين كاملين في محاولة الحسم العسكري لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، وهي باستثناء تفوقها الجوي النسبي، والاستخباراتي لم تعد قادرة على التوسّع العسكري، ولا على الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية إلّا باللجوء إلى تدمير البنية التحتية المدنية، وإلى قتل المدنيين، وإلى استخدام أقصى عناصر القوة والإجرام والبطش لإظهار «مكانتها» من القوة والسيطرة.
أما على الصعيد الأمني، فإن أكبر إخفاق أمني كان حدث «الطوفان»، وكان الخداع الذي تعرّضت له هو أكبر تمويه وخداع جرى للكيان الصهيوني منذ نشأته، والفشل الاستخباري كان أكبر بعشرات الأضعاف من كل «الإنجازات» الاستخبارية التي حقّقها.
ومن على هذه القاعدة فقد الكيان دوره في ادّعاء السيطرة على الإقليم، وادّعاء أنه قادر على حماية حلفائه القدامى والجدد، والحقيقة أنه هو من احتاج من يحميه، وأن يدافع عن وجوده، وعن ما تبقى له من دور ومكانة، وهو اليوم الكيان الأقل أمناً من بين كل دول الإقليم.
وأما على الصعيد السياسي والاجتماعي، فهو اليوم كيان آيل للتفكّك في أكثر من مظهر من مظاهر وحدة المجتمع، ووحدة النظام السياسي، وتماسك كل منظومات العمل السياسي والحزبي والاجتماعي.
أما المحور الأخير، فهو المحور الاقتصادي، حيث أن الدور الذي راهن الكيان عليه في الهيمنة والسيطرة على الإقليم، كان يستند إلى اقتصاد قوي ومتقدّم، ومسلّح بإنتاج نوعي في قطاعات ريادية، لكنه عاد اليوم ليفقد كل هذه البنى والميزات بسبب حالة الانحدار التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي للأسباب الماثلة للعيان.
لم يتمكن الكيان الصهيوني أن ينجز ملفات الإقليم لصالحه باستثناء الاختراق السوري، ولم يتمكّن، أيضاً، أن يفرض شروطه إلّا بمساعدة مباشرة من أميركا نفسها، وكان عليه أن يتنحّى جانباً لأن «السيّد الأميركي» أصبح هو من يقرر، وأصبح الدور الوظيفي للكيان مجرّد أداة للتنفيذ، ولم يعد له هوامش خاصة واسعة تستجيب للدور الذي رسمه لنفسه، وأصبح ما يُرسم له هو الهامش الوحيد والحقيقي.