تاريخ النشر: 13 تشرين الثاني 2025


آراء
عن إعادة ضبط مصطلحات الحرب ووسائلها
الكاتب: سنية الحسيني

بعد مواصلة الاحتلال تسليم مئات الجثامين لفلسطينيين قتلوا تحت التعذيب، بعصبات العيون وقيود الأطراف، وعلامات التعذيب، والرصاصات القاتلة، لدرجة فقدت بعضها الملامح، واضطر لدفنها كجثامين مجهولة الهوية، بات واجباً فتح ملف اختطاف الفلسطينيين من غزة، وتعذيبهم، وقتلهم، والتحرك العاجل وفق جميع الوسائل المتاحة لإنقاذ عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
 لم تكن مشاهد القتل الدموي بحق أسرى الحرب الفلسطينيين تحت التعذيب فقط هي ما هز مشاعر الفلسطينيين، بل أيضاً روايات المختطفين المدنيين، الذين أفرجت عنهم سلطات الاحتلال، بعد تأكدها من عدم ارتباطهم بقوات المقاومة الفلسطينية. خضع هؤلاء المدنيون، لأهوال من التعذيب وانتهاك للكرامة والإنسانية والشرف، في مجتمع شرقي محافظ، وبوسائل تذهل العقل وتسحق الروح بفعل شناعتها. وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية عن واحدٍ من معسكرات التعذيب تحت الأرض، بينما كشفت إفادات عدد من المدنيين الذين سُمح لهم بالعودة إلى غزة عن معسكرات تعذيب أخرى.
تتحكم إسرائيل بمصير آلاف من المدنيين والعسكريين الذين اختفوا من غزة ومحيطها، دون التبليغ عن أسمائهم أو أعدادهم الحقيقية. ولا تسمح بزيارتهم، وفق تأكيدات من قبل الصليب الأحمر، الذي لم تمكنه سلطات الاحتلال من زيارتهم. ويُعد ذلك جريمة إخفاء قسري وتعذيب، لأشخاص محميين وفق القانون الدولي، سواء كانوا من أسرى الحرب العسكريين، أو المدنيين، الذين اختطفهم جيش الاحتلال خلال المعارك، وفي أرض محتلة، تخضع لتنظيم قواعد اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة لعام ١٩٤٩ وبروتوكولاتها لعام ١٩٧٧. وعمدت إسرائيل لتعديل القانون بعد أحداث السابع من أكتوبر قبل عامين، بحيث تتمكن سلطات الاحتلال من تمديد مدة الاعتقال والتحقيق قبل المثول للقضاء، حيث أكد عدد من المحامين الإسرائيليين الذين زاروا السجون، خلال فترة الحرب الماضية، أن الكثير من المعتقلين مدنيون، ويتم تمديد اعتقالهم في جلسات فيديو قصيرة، دون حضور محامين.
يأتي ذلك في ظل نظام قانوني عنصري إسرائيلي، يتنكر لواقع الاحتلال للأراضي الفلسطينية، والذي يقر به العالم أجمع بمحاكمه الدولية، ومنظماته العالمية، واعترافات غالبية عظمى من دول العالم. فأدرج الاحتلال مصطلح «مقاتل غير شرعي» في قوانينه في العام ٢٠٠٢، لحرمان المقاومين الفلسطينيين، الذين ينتمون لحركات تحررية فلسطينية مسلحة، من الحماية التي وفرها القانون الدولي لهؤلاء في اتفاقية جنيف الثالثة وبروتوكولها الأول، وهو إجراء إسرائيلي فردي، لا ينسجم مع الالتزامات والتعهدات والقانون الدولي التعاقدي والعرفي. كما يعمل الكنيست حالياً على إجراء تعديلات على قوانين توسع من صلاحيات اعتقال الفلسطينيين، وتقر قوانين تسعى لشرعنة إعدامهم، في ظل تشريعاتها المحلية، التي تتنكر لواقع الاحتلال، واخترق منظومة القانون الدولي الحاكمة للأراضي الفلسطينية المحتلة.
لا تحارب إسرائيل الفلسطينيين فقط باحتلال أرضهم، وتغيير واقعها، بل أيضاً بسحق إنسانيتهم وانتهاك كرامتهم، لتدمر الإنسان الفلسطيني، وهو ما تثبته الممارسات السابقة. وتواصل إسرائيل أيضاً حربها ضد الفلسطينيين إعلامياً وعالمياً بقلب الحقائق وتبديلها، وبثها للعالم، وفق روايتها، ومنطقها. ويتبنى العالم الغربي، خصوصاً في الولايات المتحدة تلك الرواية والمصطلحات بوعي. اعتبرت إسرائيل أن الإسرائيليين الذين تم احتجازهم في غزة سواء كانوا مدنيين أم عسكريين، مع العلم أن معظمهم عسكري، حيث يخدم معظم الإسرائيليين في الجيش، أنهم رهائن، لإضفاء الطابع الإنساني، وجني التعاطف. وتصنف سلطات الاحتلال الفلسطينيين، بغض النظر عن كونهم مدنيين أو عسكرين كمعتقلين أو سجناء أمنيين، لتحرمهم بذلك من الحقوق التي كفلتها القواعد الدولية، ولنزع التعاطف العالمي معهم.
قد يكون التزام الإعلام الإسرائيلي، حتى مراكز حقوق الإنسان الاسرائيلية باستخدام المصطلحات الاسرائيلية الرسمية مفهوماً، في قضية الأسر والاحتجاز والخطف خلال الحرب الأخيرة، في إطار مقارنة الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن ما يُستهجن هو التزام الإعلام الغربي، خصوصاً الأميركي بتلك التصنيفات الإسرائيلية. بعد مراجعة وتتبع تغطية عدد من الصحف الأميركية المهمة لقضية الأسر والاحتجاز للفلسطينيين والإسرائيليين، يتبين التزامها بالمصطلحات الإسرائيلية، فصفة الرهينة هي فقط من نصيب الإسرائيليين في غزة، واستخدام صفة أسير الحرب لمقاتل الحرية الفلسطيني محرمة الاستخدام، وحتى استخدام صفة الاعتقال التعسفي بحق المدنيين، فنادراً ما يجري استخدامها في تلك الوسائل الإعلامية، ويُكتفى بوصف الفلسطيني بالمعتقل او المحتجز او السجين او حتى «الإرهابي». لم يميز الإعلام الأميركي فقط في استخدام المصطلحات فقط، بل امتد التمييز في نسبة التغطية وطبيعتها. غطت أكثر الصحف الأميركية ليبراليةً وتعاطفاً مع الفلسطينيين أخبار المحتجزين الإسرائيليين في غزة بزيادة الثلثين عن تغطيتها لأخبار أسرى الحرب من المقاتلين الفلسطينيين أو المعتقلين المدنيين بشكل تعسفي، بينما ارتفعت تلك النسبة لحوالي ٩٠ في المائة من قبل صحف داعمة دون مواربة لإسرائيل، مثل «النيويورك تايمز». وأما فيما يتعلق بطبيعة التغطية، فآثرت معظم الصحف الأميركية إضفاء الطابع الفردي الإنساني على حالات احتجاز الإسرائيليين، لجلب التعاطف، بينما اكتفت عند تغطية قضايا الأسر والتعذيب والقتل بحق الفلسطينيين، بطرحها بشكل جماعي يركز على الأعداد، وتغطية الممارسات بنسبتها لما تفيده تقارير أممية أو حقوقية.
خلاصة القول، تبدو الحرب مستمرة، ومتصاعدة بلا هوادة، وحرب المصطلحات لا يمكن إغفالها ضمن السياق، لذلك ما يحدد مصطلحات الفلسطينيين هو الهدف السياسي، بجانب توصيف القانون، ويبدو أن ضبط المصطلحات بات ضرورة ملحة في ظل صراع البقاء القائم. كما أن الكشف عن الجرائم التي تقترف بحق أسرانا من خطف وتعذيب وقتل يُعد ضرورة ملحة، وواجباً وطنياً وأخلاقياً.