تاريخ النشر: 09 تشرين الثاني 2025


آراء
خطوات على طريق تجاوز النكبة
الكاتب: عامر بدران

كان سؤال المقال السابق يتمحور حول المطلوب منا، كفلسطينيين، من أجل تجاوز النكبة التي حلت بنا كنتيجة للحرب الأخيرة، وسوف نحاول هنا استكمال ما يلزمنا من أدوات، وطريقة تفكير لنستطيع الإجابة على هذا السؤال الصعب.
ولكي يستطيع أي شخص وضع تصوّر صائب حول قضية ما، وأن يجيب على الأسئلة التي تطرحها، وأن تكون هذه الإجابات في خدمة مصلحته ومصلحة مستقبله، فعليه أولاً أن يدرك مكامن الخطأ في التصورات النقيضة، لكي لا يقع فيها مجدداً، وإلا فإن حياته ستستمر في دائرة لا تنتهي من الفشل وإعادة المحاولة، أو في انتظار المعجزات التي لا تأتي.
أول شروط وضع التصور الصائب هو الهدف الصائب الذي نسعى للوصول إليه. فلا يمكن في حالتنا الفلسطينية، وبعد ما يقرب من المئة عام من النضال، أن نستمر في هذا التشتت من طرح الأهداف وتغييرها حسب ما نعتقده من تغيير في موازين القوى.
لقد اعترف بنا العالم وبدأ بدعم مطالبنا، حين تواءمت هذه المطالب مع الرؤية الدولية لحل الصراع في دولتين لشعبين. وبناء على ذلك فلا يجوز تغيير هذه المطالب إذا استطعنا، في لحظة ما، أن نكبّد العدو خسائر في الأرواح أو السمعة، ونبدأ بترديد المعزوفة القديمة عن ضرورة تحريرها كلها من البحر إلى النهر.
قد يشبع هذا المطلب وهذه النشوة الوطنية بعضاً من عواطفنا كشعب وقع عليه ظلم تاريخي ولا زال، لكنه يتسبب لنا ولقضيتنا بأضرار وتشوهات لا يمكن علاجها بسهولة، خصوصاً وأن عدونا قادر دوماً على ترويج نفسه كضحية تاريخية، وكشعب يتعرض لخطر يهدد وجوده. ولأننا لا نملك لا القوة ولا الأدوات ولا حتى الحلفاء لتهديد هذا الوجود، فإن طرحه كهدف لا يمكن فهمه إلا من باب العبط السياسي قليل الجدوى.
الموقف نفسه يجوز عند تلقينا لهزائم أو انتكاسات كبيرة، ففي هكذا وضع لا يجوز الذهاب إلى خفض سقف مطالبنا لتصل إلى المطالبة برمي القضية بأكملها في حضن العالم أو العرب أو حتى الاحتلال، ونتصرف كفاقدي أهلية.
الشرط الثاني هو تعاملنا مع العالم، أو ما نسميه الشرعية الدولية. وهذا الشرط يكتسب أهمية مضاعفة بعد ردود أفعال المجتمع الدولي على حرب الإبادة في غزة وعلى أهل غزة. والقصد بالمجتمع الدولي هنا هو الحكومات والشعوب والمؤسسات القانونية والسياسية وليس فقط ما يتم حصره داخل أروقة الأمم المتحدة ومؤسساتها.
وهنا علينا أن نجيب عن السؤال البسيط: هل نحن معنيون فعلاً بالخارج، أم أننا قادرون على حل مشاكلنا بقوانا الذاتية، وباعتمادنا على قناعتنا بانتصار الحق مهما طال الزمن. أما الإجابة فقد قدمها تسابقنا على تبني الاعترافات الدولية الأخيرة بحقنا في دولة مستقلة، بحيث لم يبق فصيل أو جهة إلا احتفلت بهذا المنجز وجيّرته لسياساتها أو برنامجها.
أقصد أننا نعترف بأهمية المجتمع الدولي وبقراراته، وما دمنا كذلك فليس من المنطقي أن نظل على ذات الخط في شتم هذه الدولة ولوم تلك، ووضع الجميع في خانة الحلفاء لإسرائيل، وكأن العالم ليس له شغل إلا التآمر علينا وعلى قضيتنا. إذ إنه بقدر ما تعمل مع هذا المجتمع فإنك تحصد النتائج، وبقدر ما تلتزم بقيمه وأخلاقياته فإنك تحرجه وتجرّه إلى صفك ولو بعناء وجهد كبيرين. لكن ليس البديل بأي حال من الأحوال هو معاداته، فالضعيف يعمل لكسب الأصدقاء والحلفاء ولا يعمل لزيادة الأعداء.
ثم إن الركون إلى مجموعة أصدقائنا في العالم والتعويل عليهم ليس غاية الحكمة، تحديداً حين يملك عدوك قوة الدبلوماسية والمال التي تؤهله لكسبهم عند أول خطأ لك. ففي عالم السياسة لا يوجد ثوابت ولا مسلّمات، بل عمل دؤوب، وطَرق أبواب، وصراخ لا يتوقف. وفوق كل ذلك مراجعة دورية وقاسية للنفس ولأخطائها والقدرة الدائمة على التصويب، فالحق وعدالة القضية لا يكفيان لبقاء العالم معك، خصوصاً حين تعبّر عن حقك بوسائل لا يقبلها هذا العالم.
الخطأ معيار عالمي، وهو يجوز علينا وعلى إسرائيل بنفس المستوى وبنفس طريقة التعامل أو التعاطي. ولتوضيح ذلك يمكننا أن نتذكر ردة فعل العالم بغالبية دوله يوم هجوم السابع من أكتوبر، وكيف انحاز كلياً إلى صف عدونا ومنحه شرعية الانتقام، أو على الأقل وافقه على ضرورة الرد تحت غطاء الدفاع عن النفس. هذا العالم الذي عاد وانقلب على سياسة إسرائيل حين بالغت بالبطش وبالقتل الجماعي وبالتنكيل دون حدود، أي حين أخطأت وتجاوزت حدود المعقول من وجهة نظره.
ليس هذا تبريراً لا للموقف الأول ولا للموقف الثاني، بقدر ما هو محاولة للقول إن الخطأ يُرى بألف عين وليس كما يُرى الصواب بعين واحدة، وإنه من الأسلم في عالم السياسة أن تبتعد عن الأخطاء أكثر من السلامة الناتجة عن فعل الصواب.
لا يجب أن يغيب عن الذهن أن عدونا مجرم، ويجب أن نروجه في العالم كمجرم، لا أن نبرئه باتخاذ إجرامه سبباً لشرعنة أي أسلوب نضالي لا يتوافق مع أهدافنا أو أخلاقية وعدالة قضيتنا. بلغة أخرى يمكننا القول إن علينا أن نعرّيه، ولكي نحقق إنجازاً ناتجاً عن تعريته، علينا أن نرتدي أفضل ما لدينا.
يقودنا هذا إلى الشرط الثالث المتمثل بدوافع نضالنا، وهنا لا بد من مراجعة أدبياتنا السياسية التي تزخر بالبعد الديني لقضيتنا، وما انعكس علينا وعليها من استخدام هذا البعد بعناصره كلها. هل قضيتنا دينية؟ هل فلسطين وقف إسلامي؟ هل نحن في عداء مع اليهود؟ هل ما نقوم به ابتغاء الآخرة؟ الى آخر هذه الأسئلة، وإلى انعكاساتها تاريخياً وفي الحاضر، وعلى المنجز الذي حققناه باستخدامها، أو الخسارة التي مُنينا بها إن وجدت.
إن استخدام هذه العناصر دائماً ما يقود إلى وضع أهداف غير واقعية لا يمكن قياسها بأدوات السياسة، وبالتالي فلا يوجد محاسبة ولا مراجعة، إذ من يمكنه أن يحاسب فصيلاً يدعي أن غاية نضالنا هو دخول الجنة مثلاً، وكيف يمكن لمن يريد المحاسبة أن يتأكد من تحقيق هذا الهدف أو نصفه على الأقل.
ولأن المحاسبة بأدوات السياسة لا يمكنها أن تتم، فإن ادعاء تحقيق الهدف لا يظهر إلا في حالات النكوص والتراجع، وذلك لتعويض الناس عن خساراتهم وكوارثهم. وهنا بالذات يتم ادعاء النصر على العدو بكل ثقة واقتناع، لأن المعركة ذات الأدوات والأهداف الغيبية تنتهي بنصر غيبي كامل الأركان، ولتذهب الحقيقة بأرقامها وبراهينها إلى الجحيم.
نستكمل في المقال القادم