شكّلت حالة المرأة الفلسطينية تحت الاحتلال مثالاً نموذجياً للاختبار الأصعب للقرار 1325، في أعقاب مرور خمسةٍ وعشرين عاماً على صدور قرار مجلس الأمن 1325 الذي يعالج قضايا المرأة في دول الصراع المسلح، مشكلاً حجر الأساس لأجندة المرأة والأمن والسلام.
رفعت حرب الإبادة في قطاع غزة الستار عن عورات النظام الدولي وتحويل قراراته ومنها القرار 1325 إلى قرارات افتراضية تتصدى لقضية معقدة وشائكة وطويلة الأمد، يتعدى تأثير الاحتلال فيها التأثيرات والانعكاسات الجانبية، بسبب استهداف حرب الإبادة والفصل العنصري النساء وتحويل الأثر الجانبي لتأثير طويل الأمد بسبب التدمير والنزوح المتكرر والتجويع والفقد واليتم والتلوث والأمراض، كما كشفت غزة مأزق القرارات والأدوات الدولية أكثر من أي وقت مضى، ووضعتهم مع البنى والآليات الدولية أمام المرآة الكاشفة وأمام امتحان الجدوى منها.
القرار 1325، الذي وُلد عام 2000 كاختراقٍ تاريخي للنظام الدولي لجهة الاعتراف بدور النساء في منع الصراع وفي حلّه، تحوّل في كثير من السياقات إلى شعارٍ أكثر منه التزاماً موجباً، في لحظة عالمية تتسم بتصاعد الحروب والعسكرة، كشفت أن بنية النظام الدولي إما ضالعة أو متورطة بها، وأنها لم تُدرج النساء فعلاً في هندسة الأمن والسلام، بل أبقتهن في هامش الخطابات والتقارير.
يُحسب للقرار 1325 تميّزه منذ البداية بكونه إطاراً معيارياً متقدّماً يملأ فراغات سلة النساء الحقوقية الدولية، لكنه ظلّ بعيداً عن التطبيق التنفيذي. فالمنظومة الأممية والدول الأعضاء اكتفتا في أغلب الحالات بوضع خطط وطنية شكلية، أو تنظيم مؤتمرات رمزية دون تحويل القرار إلى أداة مساءلة ملزمة، وهذا عائد إلى أن تطبيق القرار يرتبط بتطبيق قرارات أخرى تتصل بالسياق المحلي، عدا ارتباط التطبيق بالتوازنات السياسية الدولية، وأريد له الدوران في دهاليز هيئة الأمم المتحدة ومتاهاتها السياسية، علاوة على أنه لا يعمل بشكل مستقل عن اعتبارات الدول المتنفذة ومواقفها ومصالحها الإستراتيجية.
عملياً، يُشكّل السياق الفلسطيني نموذجاً صارخاً لفشل المجتمع الدولي في حماية جوهر القرار 1325، فعلى الأرض الفلسطينية لا تتدحرج غايات القرار 1325 ولا ركائزه، وما تتدحرج واقعياً وفعلياً أدوات القتل والدمار والاستيطان والحصار والنزوح والتجويع، فلم تتحقق الحماية من جرائم الحرب والإبادة، ولم تتحقق المساءلة عن العنف الجنسي والجندري الذي أصبح سلاحاً منهجياً في السجون الإسرائيلية، خاصة في سجن «سديه تيمان»، ولا يزال المجرمون يفلتون من العقاب ويستمتعون بنقص بحماية ضعف الإرادة الدولية، بينما تعيش النساء الفلسطينيات على مدى ربع قرن من القرار تحت نظام استعمار استيطاني يمارس الإبادة والتهجير والعقاب الجماعي، دون تفعيل أي من آليات المساءلة أو الحماية المنصوص عليها في القرار.
وفي المقابل، لم يُمنح الصوت النسوي الفلسطيني المساحة الدولية الكافية للمشاركة في مسارات القرار السياسية، سواء في مفاوضات السلام أو في الأمم المتحدة نفسها. ومع ذلك، واصلت الحركة النسوية الفلسطينية تطوير أدواتها في المناصرة، والرصد، وتوثيق الانتهاكات، والتقارير التطوعية، في محاولة لإعادة القرار إلى معناه الأصلي: السلام العادل القائم على العدالة والمساءلة.
أما على صعيد مشاركة المرأة في المفاوضات المجتزأة الجارية حالياً، وتفريغها من العنوان الأهم، ممثلاً بهدف حق تقرير المصير واستبداله بفرض الوصاية الدولية، فلا يبدو الاستبعاد فاقعاً ضمن السياق الذي تتم فيه كمرحلة، تنطبق عليها صفة المرحلة الانتقالية، لكن ما يثير الحفيظة موضوعياً استبعاد النساء عن الحوار الوطني الداخلي من قبل فصائلها السياسية واللواتي يرتبطن بها عضوياً، بما يؤكد تهميش قطاع المرأة الواسع في القرار السياسي الداخلي!
لقد كشفت حرب الإبادة أيضاً مدى العسكرة المفرطة التي اجتاحت النظام الدولي. فالحروب لم تعد تُدار بادعاء الدفاع فقط، بل تُشن من أجل الاستئصال، بينما تُبرّر الجرائم ضد المدنيين بذريعة محاربة الإرهاب، خالقة بيئة أمنية منفلتة تجعل القرار 1325 أشبه بوثيقة من زمن سابق عاجزة عن التأثير.
حرب الإبادة والفصل العنصري وإفرازاتها تضع على الأجندة النسوية أهمية تجديد مفهوم واستخدامات ركائز القرار الأربع (الوقاية، الحماية، المشاركة، والمساءلة)، نحو ربطها بالسياقات الجديدة كالعسكرة، والنزوح الجماعي، والانعكاسات طويلة الأمد على النساء، وإعادة تقييمه على أساس المستجدات ومتطلباتها بتطويرها نحو خطاب المسؤوليات الرسمية عبر إدماجه في التشريعات الوطنية وسياسات الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار.
ربع قرن على القرار 1325، يكشف أن النص لا يصنع التغيير ما لم تتوفر الإرادة السياسية. فالنساء ما زلن في الخطوط الأمامية للحرب من دون حماية، وفي الصفوف الخلفية لصنع القرار من دون تمثيل، ومن هذه الفجوة يولد الإصرار النسوي على العمل على قرار جديد بإرادة جديدة، قرار يعيد تعريف السلام نفسه: سلام لا يُبنى على الصمت، بل على محصلة إرادة الهبّة الجماهيرية العالمية لنصرة شعب فلسطين، وعلى المساءلة والعدالة والكرامة.
السلام الذي تريده النساء هو الذي يولد من الإصرار النسوي العالمي على إعادة تعريف السلام بما هو السلام الذي تكتبه النساء، لا لتزيين الموائد السياسية، بل لتثبيت الحقيقة التي كشفتها غزة، ومرور ربع قرن على القرار لا يجب أن يكون مناسبة احتفالية، بل لحظة نقد ومراجعة تضع النقاط على الحروف بتحويل القرار إلى إطار مقاومة نسوي عالمي ضد الحروب وضد الإفلات من العقاب، لأننا نحن الفلسطينيات، فتحنا للقرار باب الأمل على مصراعيه، لكنه لم يفتح لنا نوافذ الحماية والمشاركة والمساءلة، وحالياً ننتظر منه فتح باب التعافي.