تاريخ النشر: 02 تشرين الثاني 2025


دفاتر الأيام
حـول رثـاء يـحـيـى الـسـنـوار
الكاتب: عادل الأسطة

في ١٨/ ١٠/ ٢٠٢٣ أشرت في صفحتي إلى ثلاث قصائد كتبها ثلاثة شعراء يقيمون في الوطن العربي هم تميم البرغوثي وصلاح أبو لاوي ولولوة الخاطر وزيرة التربية في قطر، فعلق سليمان عبدالله الزق المقيم في غزة بالعبارة الآتية:
«شف لي مين رثى السنوار من غزة؟».
وكان سؤاله موضع كتابتي مقالين هما (جدل أدبي في ظل المقتلة والكتابة من بيت النار وقلب الدرع والكتابة من خارجهما). أتيت في الأول على قصائد من غزة رثى فيها أصحابها الرجل، نبهتني إليها عبلة جابر، وهي لسمية وادي ولآلاء القطراوي ولسمية أبو عيطة..، ولم تكتفِ بلفت نظري بل أرسلت إلي بعض القصائد.
عندما قرأت تعليق سليمان تذكرت دراسة الدكتور الألماني (فيرنر إندة  Werner Ende) التي ترجمتها ونشرتها في مجلة «الكاتب» المقدسية في أيار من ١٩٩٢ «من هو البطل المؤمن.. من هو الملحد؟: صورة صلاح الدين الأيوبي في آداب العالم الإسلامي»، وفيها تتبع صورة صلاح الدين غير المجمع عليها والمختلف حولها حتى أيامنا، فلا يخفى الجدل الذي أثاره الروائي المصري يوسف زيدان في موقفه السلبي جدا منه.
في زمن صلاح الدين، كرهه الفاطميون وأنصارهم من السنة، مثل الشاعر عمارة اليمني الذي أعدمه صلاح الدين لولائه وحبه لهم، فقد رثاهم وعرض بالأيوبيين.
تتبع (Ende) نصوصا أدبية متعددة مختلفة لغاتها، ورأى أن الصورة  متغيرة ومختلفة في الزمان، فالجماعة التي ذمته في زمن مدحه أبناؤها في فترات الاستعمار الأوروبي، إذ نظروا إليه بطلا محررا أضعف الوجود الصليبي، حتى تمكن من جاء بعده أن يقضي، بعد مائتي عام من الاستعمار، عليهم نهائيا، وقد اتخذه يحيى السنوار في روايته «الشوك والقرنفل» مثالا له، طامعا في أن ينجز ما أنجزه فيفتح بيت المقدس.
في المقتلة الأخيرة في قطاع غزة، تعددت وجهات النظر في أحداث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ - طوفان الأقصى. هناك من اعتبر السنوار بطلا وهناك من رأى فيه متهورا جلب لقطاع غزة وأهله الاحتلال والخراب والدمار والموت، والأخيرون رددوا عبارة قاسية بحقه، وإذا كانت العبارة صادرة عن شخص يبدو من عامة الناس، فإن المرء لا يعدم قراءة منشورات عديدة لمثقفين ضد طوفان الأقصى ومن بادر به مثل شجاع الصفدي وخضر محجز وآخرين.
في أكتوبر ٢٠٢٤ قضى الرجل، فحزن من عده بطلا ولم يأسف على رحيله من حمله مسؤولية ما يجري.
وأنا أتابع أديبات الحرب، توقفت أمام ثلاث قصائد لثلاثة شعراء هم الواردة أسماؤهم، وسرعان ما يتذكر قارئها قصائد أبي تمام والمتنبي، بل وقصائد ابن القيسراني وابن منير الطرابلسي اللذين عاصرا نور الدين زنكي فيه. إنها قصائد لغتها وصورها وبناؤها الفني خارجة من معطف القصيدة العربية القديمة التي تمجد البطل وترى فيما أقدم عليه فعلا سماويا كما لو أنه نبوءة.
لقد بدأ تميم قصيدته بأبيات ذكر فيها الأنبياء وألمح إلى معاناتهم قبل أن يعترف بهم. ذكر موسى وعيسى ومحمد وما ألم بهم ثم جاء وقت غدت لهم فيه المكانة التي هم عليها الآن، وكل هذا تمهيد للحديث عن المرثي. هكذا يفتتح القصيدة «رمى بالعصى»:
«ألا كم كريم عده الدهر مجرما/ فلما قضى صلى عليه وسلما»
و
«أتعرف دينا لم يسم أهله جريمة/ إذا ضبط القاضي بها المرء أعدما»  
ثم يستطرد بوصف الحالة التي كان عليها يحيى يوم ارتقى:
«مسيرة في شرفة البيت صادفت/ جريحا وحيدا يكتسي شطره دما»
ويبدأ يسبغ عليه من الصفات ما يرفعه لدرجة الأسطورة:
«وقل في جموع أحجمت خوف واحد/ وفي جالس نحو المشاة تقدما».
ولا يختلف أبو لاوي في قصيدته «رميت عصا التاريخ» التي مطلعها:
«أيدنيك منه أم تراك تطارده/ كأنكما في الغاب ذئب وصائده»
فيرى أن المرثي الذي أحاط العدو به من كل جانب فقد عاجلهم بالضرب حتى تركهم «كمنثور عقد خاب في الربط عاقده» وأنه رماهم بعصاه التي تأسطرت لدرجة أنهم ظنوه جمعا:
«فظنوك جمعا، أنت ألف بواحد/ وطوبى لجمع يهزم الجيش واحده».
لولوة الخاطر في قصيدتها «يا سيدي هذي عصاك» ترى ما قام به نبوءة ما ساقها جبريل و»قبسا من النار التي باتت من الجسد الطهور تسيل» وتطلب منه أن يلقي عصاه «كي تلقف العار الذي ما زال جيل يحتسيه وجيل»، وترى أن قابيل العربي لا يضير البطل حين سدد ليحيى طعنة في الظهر. كأنها تذكرنا بقول المتنبي الذي تناص معه محمود درويش في «مديح الظل العالي»:
«وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فلا تدري على أي جانبيك تميل».
ومن يكتب عن روح الشعر العربي القديم في القصائد الثلاث سيكتب الكثير.
«لا خير في الأعراب يرجى أو فتى، فاضرب فأنت النص والتأويل».
من المؤكد أن الشعراء الثلاثة يرون في السنوار بطلا قياسا إلى مفهوم البطل في الشعر العربي القديم، ولكن هذا المفهوم تغير لدى الأدباء الفلسطينيين، وهذا ما كتبت عنه في أيار ٢٠١٨ تحت عنوانين «البطولة في أدب الانتفاضة» و»محمود درويش: مفهوم جديد للبطولة».
وعموما فإن عدة نقاط تحدد إن كان السنوار بطلا أم غير ذلك:
- مفهوم الشخص للبطولة وزاوية الرؤيا والموقع.
- حكم التاريخ، فالشيعة الذين عدوا صلاح الدين في فترة قاتلا، عدوه في زمن آخر مختلف بطلا.
الموضوع يجب أن يفكر فيه.