توقفنا في معالجة الثلاثاء الماضي عند الريغانية، أي رئاسة رونالد ريغان التي غطّت عقد الثمانينيات، وغيّرت أميركا، والعالم إلى حد بعيد. وهي الفترة نفسها التي شهدت صعود بنيامين نتنياهو في السياسة الإسرائيلية. ذكرنا، حتى الآن، أن المذكور أميركي، من حيث الثقافة والتصوّرات العامة، بل ونمط الحياة.
وفي سعنا، وفي سياق هذا المعالجة، القول: إنه رجل إعلام وعلاقات عامة، أيضاً، بالتعبير المتداول في توصيف الناطقين الرسميين، ومعلقي وضيوف الفضائيات. وهذه الصفة، معطوفة على مهارات إدارية صقلتها مؤهلات مهنية في الإدارة، هي التي ميّزته عن بقية أمراء الليكود. ومن محاسن الصدف أن نتنياهو الأب، الذي كان مؤرخاً محترفاً، كان من رأيه أن الابن يصلح وزيراً ممتازاً للمالية، ولم يعبر عن القناعة نفسها بشأن رئاسة الحكومة.
على أي حال، ما ينبغي التركيز عليه، الآن، يتمثل في القول: إن أوصاف الإعلامي البليغ، والإداري الجيد، لا تمثل، بالضرورة، أهم ما يرى في نفسه، وما يرى فيه آخرون أيضاً. فهو يفكّر ويتصرّف كصاحب نظرة إستراتيجية، تربّع على سدة الحكم في إسرائيل أطول من كل سابقيه، ونجح في تغييرها بصفة نهائية، بل وحتى تغيير الشرق الأوسط نفسه. ولا شك أن ما لا يحصى من أنصاره في إسرائيل، وحلفائه في الغرب، والمعجبين به في الإبراهيميات، يجدون صعوبة في مقاومة نظرة كهذه.
ومع ذلك، لا يبدو من السابق لأوانه القول: إن نظرة كهذه لا تملك ما يكفي من مقوّمات الصمود في وجه اختبارات الزمن. يصعب التشكيك في حقيقة البصمة الدائمة والنهائية، التي تركها على بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين، بطبيعة الحال، ويصعب بالقدر نفسه محو علامة قايين على جبهة الاثنين، بعد تركة الجينوسايد.
ولعل في أمر كهذا ما يعيد التذكير بمؤسس الدولة، والسياسي الأهم في تاريخها، ديفيد بن غوريون، الذي وُلدت على يديه مشكلة اللاجئين على فراش خطيئة طرد السكّان الأصليين. خطيئة أولى بددت سلام الشرق الأوسط على مدار سبعة وسبعين عاماً مضت، وهي مرشحة لتبديده على مدار سبعات كثيرة لاحقة ما لم تجد حلاً عادلاً.
وما يعنينا، الآن، أنه لم ينجح في تغيير الدولة والمجتمع بطريقة حاسمة ونهائية نتيجة ما لديه من مؤهلات استثنائية (سيأتي بيانها لاحقاً) بل نتيجة وجود ظروف موضوعية مكّنت مؤهلاته من التفتح، ووضعته على طريق النجاح. وفي هذا ما يُعيدنا إلى الريغانية، التي تعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين.
أهم سمات الريغانية، بقدر ما يتعلّق الأمر بموضوعنا، أنها كانت ثورة مضادة لحركة الحقوق المدنية من ناحية والثورة الطلابية، من ناحية ثانية. وقد أعادت الاعتبار إلى النزعة العسكرية، بعد الهزيمة المهينة في فيتنام، وقادت حروب التدخل السرية والعلنية ضد السوفيات في أفغانستان، وضد الحركات الراديكالية واليسار في كل مكان آخر، علاوة على تقليم أظافر النقابات، والحركة النقابية، وسياسات الخصخصة، وتحرير الاقتصاد من القيود والرقابة الحكومية. والواقع أن الريغانية هي التي أنجبت العولمة.
ذكرنا، في معالجة سبقت، ما نجم عن صعود اليمين بزعامة بيغن، إلى سدة الحكم في إسرائيل من سياسات اقتصادية واجتماعية، وتحوّلات أيديولوجية، زعزعت الدولة العمالية البوليسية، وشبه الاشتراكية، وهمّشت الهستدروت والحركة النقابية. كانت التحوّلات المعنية متناغمة مع الريغانية الاقتصادية والاجتماعية وميولها الأيديولوجية في الداخل والخارج، وكانت إلى حد بعيد ترجمة لها. وفي سياق كهذا، صعد نتنياهو الثمانينيات الأميركي، ورجل الإعلام والعلاقات العامة، وفي دولة ومجتمع وضعا أولى الأقدام على طريق الأمركة.
وما لا يحظى بالاهتمام، في التحليلات ذات الصلة، أن مهارات الإعلامي البليغ، ورجل العلاقات العامة، وهي أميركية في الجوهر، كانت حتى ذلك الوقت غريبة عن المجتمع الإسرائيلي. لم يحرص الساسة والجنرالات على الهندام والمظهر الخارجي، في العقود الأولى من عمر الدولة. كان خطابهم موجهاً، في الغالب، إلى جماعات أشكنازية من ممثلي النقابات، والكيبوتسات، والتعاونيات الزراعية، والطبقة الوسطى المدينية، بلا شعارات الشعبوية وحيلها وألاعيبها.
وقد دارت بين نخبة الحكم، حتى بعد الانتصار الساحق في العام 1967، نقاشات حادة لتفادي تنظيم عروض عسكرية ضخمة في القدس احتفالاً بالنصر. ورغم أن السلوك الاحتفالي في تلك الأيام كان متواضعاً مقارنة بما سيأتي لاحقاً، وما يحدث هذه الأيام، إلا أن يشعياهو ليبوفيتش لم يتورع عن تسمية المظاهر الاحتفالية «دسكوتيك [مرقص] حائط المبكي» بعد نهاية الحرب بوقت قصير.
قلنا: إن مهارات نتنياهو الأميركية كانت غريبة عن المجتمع الإسرائيلي، ولكنه صعد في وقت وضع فيه المجتمع أولى أقدامه على طريق الأمركة. وفي ركاب الأمركة نفسها، شقت مهارات الإعلام والدعاية طريقها. ورغم أن مهارات المذكور لم تكن مرشحة لمنافسة الروافع الاجتماعية الأساسية للعماليين، إلا أنها وجدت في «مدن التطوير»، والمجتمعات المُهمّشة، التي تضم مهاجرين من بلدان عربية وشرق الأوسطية، أرضاً عطشى، وتربة صالحة.
كانت لدى هذا الخليط من المهاجرين ثارات كثيرة مع العماليين، وتحفّظات على تصوّراتهم الاجتماعية، ونمط حياتهم. لذا، لم ينجم تصويتهم لليمين، بزعامة بيغن (الذي يضم أغلبية أشكنازية، أيضاً) عن تحيّزات أيديولوجية، بل كان تصفية حساب مع العماليين، ونظامهم السياسي.
وبهذا المعنى، شكّل الواقع الموضوعي، أي حسابات وتحيّزات ناخبي اليمين، وقاعدته الاجتماعية، مسرحاً مثالياً لاستثمار مهارات أميركية في الإعلام والعلاقات العامة من ناحية، ومُحرّضاً على استثمارها بأدوات ولغة والشعبوية السياسية، من ناحية ثانية. وهذا ما كان. فاصل ونواصل.