صعد نجم نتنياهو في إسرائيل الثمانينيات. للإطار الزمني، في سياق كهذا، أهمية فائقة، طالما أن فيه ما يمكننا من تشخيص الصعود كأمر نجم عن، وتجلى في، عوامل موضوعية تتجاوز الكفاءة والحظوظ الشخصية.
وهذا مفيد، على نحو خاص، في تحليل ما طرأ على المجتمع الإسرائيلي من تحوّلات، شكّلت روافع سياسية وأيديولوجية للمذكور.
لن يكون هذا الأمر مفهوماً دون العودة إلى انتخابات العام 1977، التي جلبت اليمين، بزعامة مناحيم بيغين، إلى سدة الحكم للمرّة الأولى منذ العام 1948، وغيّرت الدولة والمجتمع الإسرائيليين بطريقة حاسمة ونهائية. لم تكن علامات وتداعيات التغيير واضحة، آنذاك، واعتقد البعض أنها مجرّد هزيمة مؤقتة تكبدها العماليون (الجناح اليساري للحركة الصهيونية) الذين أنشؤوا الدولة، وهيمنوا عليها بالمعنى السياسي والأيديولوجي حتى خسارتهم للانتخابات في ذلك العام.
ولعل من المفيد الإشارة إلى رواية ليعقوب شبطاي بعنوان «الماضي المستمر» صدرت في العام نفسه، كأنها نبوءة سوداء، لا تضفي على الخسارة شبهة الكبوة المؤقتة، بل تجعل منها نتيجة موضوعية، وحاسمة، لشيخوخة وفساد العماليين، ونفاد الطاقة، وتحلل القيم، التي مكّنت الجناح اليساري للحركة الصهيونية من إنشاء مؤسسات الدولة، والهيمنة عليها في زمن مضى.
كانت إسرائيل أواسط السبعينيات أقرب إلى دولة في آسيا الغربية يهيمن عليها يهود من أوروبا الشرقية، يحكمها نظام بوليسي وشبه اشتراكي، منها إلى دولة الديمقراطية الليبرالية، والاقتصاد الحر، في أوروبا الغربية.
ومع هذا في البال، يمكن العثور على روافع التحوّلات السياسية والأيديولوجية في إسرائيل الثمانينيات، في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والتحّيّزات الأيديولوجية، لحكومة بيغين، وما تلاها من حكومات اليمين.
جعل كل ما تقدّم من عقد الثمانينيات، معطوفاً على معاهدة السلام مع مصر، وحرب لبنان 1982، فترة تحوّلات راديكالية تماماً في حياة الدولة والمجتمع الإسرائيليين.
وفي هذا الفترة، بالذات، شهد الحقل السياسي صعود ما سيُعرف في لغة الإسرائيليين بأمراء الليكود. وهؤلاء هم أبناء وبنات شخصيات تاريخية، رافقت جابوتنسكي الأب الروحي للصهيونية التنقيحية، قبل قيام الدولة، ومثّلت الكتلة الرئيسة للمعارضة بعد قيامها. ومن هؤلاء بيني بيغين، وإيهود أولمرت، ودان ميريدور، وتسيبي ليفني، وبنيامين نتنياهو.
التحق أمراء الليكود الجدد بنخبة الحقل السياسي بسرعة لا تتناسب مع مؤهلاتهم، بالضرورة، بقدر ما تدل على فعالية صلات القربى، البيولوجية، والأيديولوجية، والشبكات الاقتصادية والسياسية، التي حكمت شروط الالتحاق بالنخبة قبل، وبعد، إنشاء الدولة.
وفي سياق كهذا، يدين بنيامين نتنياهو بصعوده في حقل السياسة الإسرائيلية لموشي أرينز، أحد أهم مثقفي الليكود، الذي عمل سفيراً في الولايات المتحدة، وشغل مناصب وزارية مختلفة، منها وزارة الخارجية والدفاع.
أرينز هو الذي عيّن نتنياهو الشاب، في الثمانينيات، رئيساً للبعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة (بمساعدة شمعون بيريس، أيضاً).
وما يعنينا من أمره، الآن، أنه صاحب فكرة ينبغي أن تحضر في الذهن، في كل محاولة لتحليل سياسات وتصوّرات نتنياهو. تقول الفكرة ما معناه: «ما لا تستطيع تحقيقه الآن لا يعني أنه غير قابل للتحقيق، فقد تتوفر ظروف تمكّن من تحقيقه في وقت لاحق».
على أي حال، أسهم صعود أمراء الليكود، والتحاقهم بالنخبة الحاكمة، في قلب تصوّرات وتقاليد بدت حتى ذلك الوقت، وكأنها من ثوابت الحقل السياسي الإسرائيلي، ومنها أن الجنرالات هم الأوفر حظاً في استلام مقاليد الحكم بعد خروجهم من الخدمة.
لم يلتحق أحد من أمراء الليكود بنخبة الحكم نتيجة مؤهلات عسكرية استثنائية، بل نتيجة شبكات المصالح العائلية والسياسية، إضافة إلى نشوء الحاجة لامتلاك مؤهلات إدارية ولغوية وفكرية تنسجم مع تحوّلات طرأت على بنية الدولة والمجتمع.
ولعل في هذه الحقيقة ما يفسر توتر العلاقة بين نتنياهو والعسكريين المحترفين منذ صعوده إلى سدة الحكم، وحتى الآن.
سبق وقلنا إن نتنياهو أميركي من حيث النشأة، والثقافة، والتصوّرات العامة.
حتى في زمن خدمته العسكرية في وحدة من وحدات النخبة، كان لا يقرأ سوى المجلات والكتب المنشورة بالإنكليزية (كما ذكر أشخاص رافقوه في تلك الفترة). وطالما وصلنا إلى المؤهلات الجديدة، التي يمكن العثور عليها في مكان آخر غير الجيش، فلا يصعب تشخيص مؤهلات المذكور بوصفها لغوية في المقام الأوّل، فهو يتحدث إنكليزية طليقة، وينجح في توليف مرافعات لا تقيم وزناً للحقيقة، بالضرورة، ولكنها تصلح للتداول والاقتباس.
وهذه المؤهلات، على الأرجح، هي التي دفعت إسحق شامير لاختياره ناطقاً باسم الوفد الإسرائيلي إلى مؤتمر مدريد.
ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد وأعقد من إنكليزية طليقة، وما يستدعي وجود مؤهلات لا توفرها الخدمة العسكرية.
ومن هذا الباب، بالذات، ندخل إلى التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الناجمة عن تحرير الاقتصاد، والتقاليد السياسية في إسرائيل الثمانينيات من ناحية، والانقلاب الهائل الذي أحدثته الريغانية (رئاسة رونالد ريغان، وصعود النزعة المحافظة) في الولايات المتحدة، من ناحية ثانية. وهذا، على أي حال، ما يمثل موضوع معالجات لاحقة. فاصل ونواصل.