"إهداء الى روح توفيق الحكيم"
---
سيكون لوقف الحرب معنى إن بدأت خطوات السلام، وهي منظومة معاً، فكما ينجح العالم اليوم بوقف المجزرة هناك في غزة، فهو مدعوّ إلى النجاح في وقف مجزرة الأرض هنا في الضفة الغربية، فأهم شوكة هنا ألا تستمر الخطوات إلى النهاية المأمولة: دولة فلسطين المستقلة والقدس عاصمة لها.
ضمان ذلك هو الاستمرار، وما اجتماع باريس إلا تأكيد على ذلك، ولكن حتى نكون أكثر جديةً، فإن ضمان التوازن الاستراتيجي العربي (الإسرائيلي) عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، هو ما سيضمن الاستمرار. فهل سيفعل العرب أخيراً ذلك؟ لا يمكن أن يكون هنا سلام مستقر يصنعه ضعفاء؛ ففي الوقت الذي نتهيأ فيه للسلام، ينبغي دوماً ضمانه بأن نكون مستعدين كأمة لسيناريوهات مفاجئة. إن إعادة بناء الجيوش العربية على أُسس علمية حديثة، والاستفادة من التجربة العربية في مصر، هو ما سيضمن تجنب العثرات.
وفي مسرحية "أشواك السلام" لتوفيق الحكيم نقرأ:
"أليس من الصعب أن يسير الإنسان في الفضاء نحو القمر ولا يسير على الأرض نحو السلام " صفحة 79.
بعد خمس صفحات أقرأ هذا الحوار:
- هل يمكن إزالة هذه الأشواك؟
- ليس الأمر سهلاً!
- لكن ممكن"
ويكون المفتاح "السر" من وجهة نظر الكاتب هو القلب.
يتنقل بنا الكاتب من الحياة الاجتماعية بين أسرتين من محافظتَي الغربية والشرقية الى أروقة الأمم المتحدة في جنيف، فقد كانت بداية المسرحية مشروع زواج بين دبلوماسي وشابة، لكن ما ان يتم الحديث في الموضوع، حتى تتعقد الأمور بسبب حذر الوالدين، وما يعرفان من معلومات غير دقيقة. ثم لينتقل الشاب (العريس) الى جنيف ليشارك في نقاشات دولية، ما إن تقترب من الحل حتى تتعقد.
يصيح الصحافي الأول بعد سماعه عن الاتفاق "في المنظر الثاني، الفصل الثاني:
- الصحافي الأول: انتصار!
- الثاني: السلام يفوز.
- الثالث: أخيراً سيعمّ السلام الأرض.
- الرابع: إجماع ساحق."
ويخفف أحدهما، ولعله يفسّر سرّ سرعة الاتفاق: "الشعوب تريد ذلك".
لكن نُفاجأ بحدوث التعقيد، فلم يحصل الاتفاق بانتظار مذكّرة من وزيرَي خارجية المعسكرين الكبيرين. وتبدأ الاتهامات "كل من المعسكرين يتهم الآخر بالاستعداد لإثارة الحرب".
وهنا، يفسّر الكاتب على لسان شخصية في المسرحية، لعله يتقمصها "القادة يفكرون ويدبرون، والتفكير عندهم يؤدي الى الحذر واتخاذ التدابير، والتدابير تورط في أخطاء، والأخطاء تُفسد جو الصفاء.." صفحة 85.
تأمل وإحساس، وتكرار عودتي لمسرحية "أشواك السلام" لتوفيق الحكيم، التي صدرت عام 1957، وهأنذا هذا الصباح أعيد قراءتها. كانت المرة الأولى أثناء الدراسة في مصر 1991، حيث كنت قد اقتنيت تقريباً كتب الحكيم، الذي جذبني منذ طفولتي بنصوصه، وكذلك وأنا فتى شاب، في رواياته ومسرحياته وكتبه الفكرية. إذن لألتقط هذه الفرصة، حيث تمددت الكتب في مكتبتي الصغيرة هناك، وهي الآن تحتل رفاً كبيراً كاملاً.
لم يتغير الكثير في فهمي للمضمون؛ فعلى مدار 34 عاماً من القراءة الأولى، فإن الذي يجدّ هو التعمق بالشعور، لذلك فإن الإنسان ليس فكراً بل مشاعر. تعمق لديّ أن السلام منظومة نفسية واجتماعية ودولية. كما تعمق لدي أن المسؤولية تقع علينا جميعاً حكّاماً ومحكومين، وليس كما أوحى الحكيم مركّزاً على مسؤولية الكبار اجتماعياً ودولياً، لعله قال ما قاله ربما من تأثير الأدوار.
قبل الحديث، فإننا في هذا الصراع بحاجة لقراءة تاريخنا هنا، ولا يكفي أن نقرأ ما كتبناه نحن، قديماً وحديثاً، بل ما كتبه الآخرون ومنهم الأعداء الذين دخلوا معنا في صراع لم ينتهِ بعد، ما اتفقنا وما اختلفنا، ثم ليبحث الناس هنا، كل الناس أشقاء وأعداء، ما كتبه مُنصفون، حتى ولو كان عددهم قليلاً.
وعندما نقول نحن، فإنني أعني كلنا، بما اختلفنا في الجماعة الواحدة والجماعتين، خلال الاشتباك مع الاحتلال، وضرورة مهمة أن نعرف لمَ وصلنا الى هنا، عربياً وعالمياً. وخلال ذلك، ربما نتفهم أحداث التاريخ، وموازين القوى، خاصة أن ما بعد مرحلة الاستقلال، لم تكن كذلك سوى في بعض الاستثناءات، وإن لم تكن مطلقة تماماً، فوجدنا أنفسنا وقد تم اختراقنا وتخويفنا، ونهبُنا أيضا، فلم يتحقق الاستقلال ولا ما يحزنون، وبدلاً من تقوية الذات العربية، قضينا الوقت وما زلنا ونحن نتنازع على الوهم، وصولاً لتعميق ما قالته أُم أبي عبد الله الصغير آخر حكام غرناطة: "حسد الذليل على الهوان الصاغر". فهْم المكتوب وفهْم ما عشناه ضرورة لتأمّل صريح، لعله يقود أشقاء وأصدقاء وأعداء الى فتح الصفحة الأولى نحو حل الصراعات.
لنتحمل مرة المسؤولية، حتى نهدي العدو مبررات قتلنا، لنكن على قدر المسؤولية فلا نستمر بالاتهام والتخوين واللف والدوران الذي لا يفيد، حتى نمنح ما هو ممكن عربياً اليوم، بقيادة الشقيقة مصر مدعومة ومسنودة من الدول الشقيقة المؤثرة، بالقيادة العقلانية، مدعومة بقوة الجيش والثقافة والعراقة والصدق في التوجه نحو سلام دائم.
وحتى تنجح مصر، والعرب معاً، لا بد من تقوية الثقة، فلا يمكن أن يكون هناك نجاح ما دمنا إلى الأجنبي أقرب من الشقيق. وحفاظاً على الثروات، ومعروف طمع الأجنبي بها، فإنه يمكن بطرق سياسية قطع الطريق على المستعمِرين، قد يبدو ذلك صعباً لكنه ممكن.
لا يمكن عمل اختراق في السلام هنا وضمان استمراره، إلا بضمان توازن عسكريّ واقتصادي، تسانده تقوية استعادة روابطنا بما يحتاج المستقبل من عمل وحدوي تعليمي وثقافي وتكنولوجي.
هناك ثقة في مصر من قبل العدو والصديق، رغم عدم المحبة، فليس الحب هو الشرط بقدر الوعي، وهنا لعلّي أختم بما أراه:
- في ظل الإجماع العالمي شعبياً وسياسياً، فإن العودة إلى الوراء محرمة منا جميعاً.
- باتت الفرصة أولاً أمام دولة الاحتلال لتصبح لأول مرة دولة غير قلقة وخائفة، بعد أن خاضت جرائم حرب، لم تكن نتيجتها هزيمة فلسطين. ولعل الخطوة الأولى تبدأ بالتغيير الفكري، وهي إن فعلت تخلص، وطريق ذلك آنياً استقالة المتورطين في المشهد الدموي، أو إقصاؤهم، فلا يمكن استئناف طريق التسوية مع قادة ملطخة أيديهم بالدم.
- أن ترتقي السياسة الغربية والأميركية للبدء في فتح صفحة جديدة مع العالم ونحن منه، فيصبح التعاون بديلاً للتخويف، فالأمان الحقيقيّ والاستقلال الذي يضمن الكرامة، هو ما يحقق مصالح الشعوب.
- عربياً وفلسطينياً، معروف ما صار لازماً لنفعله، فلسنا بحاجة للتذكير بما أصبح واجبنا جميعاً، أما من لا يسره ذلك، فليعتزلنا.
- احترام الكرامة، لا الأمر ولا التخويف ولا الغدر، هو ما سيضمن الاستمرار بالطريق. وليكن العالم شاهداً.
- لعل ما هو استراتيجيّ اليوم هو استغلالنا جميعاً موقع مصر العالمي، الذي تستطيع إنجازه، وهي الآن في موقف تاريخي قومي ودولي تجعلها الأكثر نضجاً وتفهماً من أجل إنهاء الصراع. وإن دعم الدول العربية المؤثرة لمصر هو دعم لها. وعندما نقول مصر فإننا نقصد في العمق أمتنا العربية. ربما هي آخر فرصة للبدء بسلام حقيقيّ.
Ytahseen2001@yahoo.com