تاريخ النشر: 10 تشرين الأول 2025


آراء
عامان على حرب الإبادة: الاحتلال لم ينتصر


نعم الألم مُخيف والخسائر لا مثيل لها في التاريخ الفلسطيني، لكن حجم القتل والمجاعة والدمار في غزة، لا يعكس في حقيقة الأمر قدرة الاحتلال على تحقيق انتصار لا في فلسطين ولا في الإقليم.
حتى ينتصر الاحتلال فإن عليه أن يُترجِم حجم الكارثة التي أحدثتها آله الموت الفائقة القدرة التي يمتلكها والمدعومة من الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، إلى إنجازات سياسية.
وهذا لا يحدث إلا عندما تستسلم المقاومة لشروطه؛ بخلاف ذلك، لا يُمكن للاحتلال أن يحقق الانتصار.  
عليه باختصار أن يتمكن من إجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام لشروطه، وعلى إرغام المقاومة اللبنانية على تسليم سلاحها، وعلى إكراه اليمن على وقف إسناده للشعب الفلسطيني، وعلى حِرمان إيران من امتلاك برنامج نووي قادر على تخصيب اليورانيوم ومن الاستمرار في تطوير برنامجها الصاروخي. بخلاف ذلك، لا يوجد انتصار.
لقد أنجز الاحتلال العديد من الجرائم التي يمكنه التفاخر بها:
في غزة، تمكن من تدمير أكثر من 90٪ من المباني القائمة فيها، وتقريبا غالبية مستشفياتها ومدارسها وبناها التحتية، وشرد كامل أهلها (بعضهم نزح أكثر من 20 مرة)، وقتل وجرح ما يزيد على ربع مليون فلسطيني فيها، وفرض الجوع على من بقي حيا فيها. لكنه لا يزال عاجزاً عن إخضاعها وهو يفاوض للحصول على أسراه ومن أجل تحقيق ما عَجز الموت والخراب الذي نشره في شوارعها وأزقتها عن تحقيقه.
وفي لبنان، استطاع الاحتلال اغتيال تقريبا كامل الصف الأول لقيادات حزب الله وربما أيضا جزء مهم من قادة الصف الثاني، وقتل وجرح عشرين ألفا من المدنيين والمقاتلين اللبنانيين، ودمر عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، وربما العشرات أيضا من مخازن السلاح، لكن جنوده عجزوا عن احتلال جنوب لبنان، وهو لم يتمكن لا من إحداث صدع بين المقاومة وقاعدتها الشعبية ولا من إجبارها على التخلي عن سلاحها.
وفي اليمن، دمر الاحتلال البنى التحتية القليلة التي يمتلكها ذلك البلد الفقير بإمكانياته العظيم بشعبه، واغتال كامل أعضاء حكومتها المدنية، لكنه فَشِلَ في إجبار اليمن على وقف إسناده للشعب الفلسطيني، وفشل في إِخافة مئات الآلاف من اليمنيين الذين يحتشدون كل يوم جمعة منذ سنتين لنصرة الفلسطينيين.
وفي إيران، يُمكن للاحتلال أن يتبجح بأنه تمكن بدعم كامل من الولايات المتحدة من تدمير مفاعلات إيران النووية، ومن اغتيال كبار قادتها العسكريين، وربما حتى من تدمير جزء مهم من ترسانتها الصاروخية. لكنه لم يتمكن من إجبار إيران على التخلي عن برنامجيها النووي والصاروخي، وهي لا تزال تمتلك القدرات على إعادة بناء ما تم تدميره.
لكن هذه النجاحات التي لم يتمكن الاحتلال من ترجمتها إلى إنجازات سياسية (مثل استسلام المقاومة في غزة ولبنان واليمن وتخلي إيران عن برامجها النووية والعسكرية)، لم تكن أيضا بلا أثمان كبيرة دفعها الاحتلال أيضا.
لعل أهم هذه الأثمان هو عجز الاحتلال عن استعادة قدرة ردعه التي ذهبت والى غير رجعة قبل عامين يوم السابع من أكتوبر، وعزلته الدولية الكبيرة، وشعوره بأنه أصبح مكروها في مشارق الأرض ومغاربها، والخوف من تعميق العقوبات الدولية عليه، وملاحقة قادته بتهمة ارتكاب جرائم حرب، والشعور اليومي بعدم الأمان بعد أن كان يَحلم بالتطبيع بلا مقابل مع المحيطين العربي والإسلامي.
يضاف لذلك قطعا الخسائر المباشرة في اقتصاده وجنوده وحتى في بناه التحتية والعسكرية خلال جولة الحرب القصيرة مع إيران.
إن نتائج عامين على المذبحة المُستمرة في غزة، لا تُشير إلى قدرة الاحتلال على الانتصار في هذه المعركة، والى تَمكنه من إخضاع شعوب المنطقة لشروطه، ولكنها تشير إلى عجز منطق القوة أو المزيد منها على تحقيق ما يريد.
إنها تشير فقط إلى عمق الأزمة التي وصل إليها الاحتلال وإلى حاجته، رغم كل صلفه وإنكاره، إلى من يُخرجه من المستنقع الذي غرق فيه، وهو العاجز عن الإشارة إلى انتصار سياسي حقيقي واحد يُمكنه الإشارة إليه.
نعم الشعب الفلسطيني لم يعد يحتمل كل هذا الموت والقهر، والأولوية يجب أن تكون لوقف حرب الإبادة وإدخال المساعدات الإنسانية، لكن ذلك يجب ألا يكون على حساب تمكين الاحتلال من تحقيق أهدافه بالوسائل السياسية والتي عجز عن تحقيقها بالوسائل العسكرية، وهذا يتطلب التمسك بثلاث قضايا أساسية:
أولا: عدم التنازل عن شرط الانسحاب الكامل من قطاع غزة وهو ما يعني عدم القبول ببقاء الاحتلال في أي جزء من غزة. الاحتلال قد يتمكن عسكريا من البقاء في أجزاء منها أو في كاملها، لكن يجب عدم الموافقة على ذلك في أي اتفاق.
إن شرعنه الاحتلال تعني بكل بساطة إلغاء الحق في مقاومته، وتُمهد الطريق لفرض شروطه في أي تسوية سياسية قادمة.
ثانيا: التمسك بالحق في المقاومة وهو ما تُقره القرارات الأممية بنصوص صريحة. الفلسطينيون وحدهم من يقرر شكل مقاومة الاحتلال وفق قراءتهم لواقعهم، لكن الحق في المقاومة لا تجري المساومة عليه. إن التنازل عن هذا الحق معناه الاستسلام لإرادة الاحتلال.
ثالثا: ربط كل مسار سياسي خاص بغزة بالمسار الأكبر لحل القضية الفلسطينية. وهذا يعني التمسك بوحدة غزة والضفة، ووحدة تمثيل الفلسطينيين، والتمسك بقرارات الشرعية الدولية.
إن القبول بلجنة تكنوقراط لإدارة غزة مرجعيتها دولية وليس الشعب الفلسطيني نفسه هو إقرار بفصل غزة عن الضفة. كما أن القبول بتسوية في غزة دون ربط ذلك بمسار واضح لحل القضية الفلسطينية هو إهدار للفرصة التاريخية المتمثلة بالإجماع الدولي الحالي على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967.
لا أعرف إن كان الاتفاق الذي وقعت عليه المقاومة في شرم الشيخ مع الاحتلال يراعي هذه المعايير، فما هو معلن منه حتى لحظة كتابة هذه السطور لا يكفي للتعليق عليه.
ما هو مُعلن من وقف للحرب وتبادل للأسرى ودخول للمساعدات الإنسانية وانسحاب للاحتلال، مُرحب به بالتأكيد، لكننا لا نعرف تفاصيل الاتفاق وما هي المواضيع التي تم تأجيلها للمرحلة الثانية من الاتفاق.  
لقد قدم الشعب الفلسطيني في هذه الحرب تضحيات هائلة لا يُمكن مقارنتها مع تضحيات شعوب أخرى عانت من الاحتلال، آخذين بعين الاعتبار الإمكانيات القليلة المتوفرة بين يديه، والحصار المفروض عليه منذ عقود، والجغرافيا الضيقة التي يتحرك فيها، ولهذا السبب تحديدا يجب عدم الاستسلام لشروط الاحتلال ورعاته الأميركيين والغربيين.