تاريخ النشر: 02 تشرين الأول 2025


دفاتر الأيام
على قيد انتظار الموت أو الحياة
الكاتب: سما حسن

يقتلني انتصار الموت عندما يكون الإنسان قد وضع على قيد الانتظار وأن الحياة تتنحى جانباً وينطفئ بريق الأمل وسط الدم والدموع وحبال الخيام وحيث إنني قد التقيت ومنذ بدء هذه المقتلة بالكثير من الأصدقاء، الذين جمعتني بهم مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية والذين باحوا لي من وسط المحرقة بأمنياتهم في النجاة والتحليق بعيداً بأحلامهم حتى انتصر الموت في النهاية ونعاهم الناعون واحداً تلو الآخر.
بلغنا خبر مقتل المصور الفنان يحيى برزق وقد تخصص فعلياً في تصوير الأطفال وخاصة المواليد وبطرق فنية لافتة ومميزة، وقد كان يحيي يحمل الجنسية التركية وينتظر أن يتم إجلاؤه مع عائلته ضمن من يتم إجلاؤهم عن طريق سفارات الدول التي تسعى إلى إجلاء رعاياها من أرض المقتلة، وقد كان يحلم أن يحيا بعيداً عن كل هذا العذاب الذي لم يعد يطيقه لأن الإنسان ليس أكثر من طاقة تنفد تدريجياً والمطالبة لهذه الطاقة بأن تستمر أكثر مثل أن تأمل من حجر البطارية الذي نفدت شحنته بأن يعمل فتقوم بعضه بأسنانك مراراً وقد تقوم بغليه بالماء كما كنا نفعل في وقت انقطاع الكهرباء في غزة، وربما ابتدع آخرون طرقاً أخرى لكنها جميعاً ليست إلا كمسكنات الألم قد تجدي لوقت قصير ولكن النتيجة واحدة وهذه النتيجة لا مفر منها.
نفدت طاقة التحمل لدى المصور الشاب يحيى برزق وباح بذلك مراراً مثلما كتب لي أصدقاء افتراضيون كثر وكنت أقدر حقهم في الحياة ودائماً ما أردد أن النجاة حق ولولا ذلك لما شق موسى بعصاه البحر بحثاً عن طريق نجاة، وقد كان على يقين بأنه سينجو أما في غزة فأنت تنتظر طوق النجاة وتبقى على قيد الانتظار وأنت تعرف أن الموت يسعى إليك مهرولاً فيما الحياة تزحف وكأنها قد استلقت في استرخاء فوق ظهر سلحفاة.
أوجعتني تلك الأحلام الضائعة للحالمين بيوم أجمل بلا دم ولا قصف ولا صوت الانفجارات ولا تقطع سبل الحياة وشقة البحث عن مكان لخيمة أو شربة ماء أو كسرة خبز، لقد حلموا وهذا حقهم الذي لا يستطيع أن ينكره أحد ولا تملك حين يكتب لك أحدهم: لقد تعبت، سوى أن تشاركه حلمه بأنّ هناك يوماً سيأتي ليرحل عن كل هذا الجنون أو ليصمت كل هذا الجنون من حوله فجأة ويجد نفسه فوق فراشه الدافئ ملتفاً بغطائه السميك وفيما تدوي الرياح خارجاً يفصله عنها زجاج سميك فيتنهد ويتنفس الصعداء هاتفاً بنفسه: أنا في أمان.
من حقهم أن يعيشوا في أمان وأن يظلوا على قيد انتظار الحياة، لكن هل من حق الموت أن يلحق بهم ويسرع ويقتل أحلامهم وهم لم يفعلوا شيئاً في أيامهم سوى أن يحلموا، وقد سعوا وجاهدوا لكي يظلوا أحياء وسط كل أسباب الموت القاهرة والمذلة التي لا يستطيع بشر أن يقاومها، لكن إرادة الحلم كانت لديهم قوية حتى وهم يكتبون للآخرين الذين يبعدون عنهم بالمسافات والقريبين من قلوبهم: انتظرونا.
اليوم تتضاءل قائمة الذين أنتظرهم، أحدهم فقد فلذة كبده ولم يعد لديه حلم في أن يخرج بعيداً عن هذا الموت المتسارع فهو قد سألني: لمن أخرج ومن أجل من؟
أما الثاني فقد مات مع أطفاله وقد حلم لهم بحياة هادئة آمنة وبمدارس لا تتحول فجأة إلى مراكز إيواء للنازحين البؤساء، والثالث ألقى بالكاميرا التي طالما التقط بها صوراً لمولد حياة جديدة وتمدد على أرضية مشفى بارد معلناً النهاية الحزينة.
لا شيء يقتلني أكثر من قائمة انتظار تتقلّص وتقصر وقائمة أخرى تطول وأيام تمر تشبه بعضها لأنها لا تحمل سوى رموز الشقاء والتعب وفقدان الأمل، بعد عامين من لهاث لا يتوقف نحو نهاية لا تأتي، نحو أمل يخبو والركض السريع الذي يقطع الأنفاس في نفق لا تبدو في نهايته أي لمحة ضوء، هكذا نموت ببطء وهكذا يموتون وهم على قيد الانتظار.