حين أرغب في زيارة وجهي الحقيقي ووجه بلادي الأصيل أطير إلى أربعة شباب فلسطينيين مختصين بالأرشيف الفلسطيني وهم: حمزة عقرباوي من قرية عقربا- نابلس، عمر العاصي من فلسطينيي الداخل، وبلال شلش من قرية شقبا – قضاء رام الله وعلي حبيب الله من قرية عين ماهل- قضاء الناصرة، أتابع ما يكتبون بلهفة، أركض خلف مقابلاتهم على اليوتوب، أقرأ مقالاتهم وكتبهم، وأحضر محاضراتهم، وأتواصل معهم مستفسراً أو طالباً باستزادة حول موضوع معين.
التاريخ او التراث الشعبي الوطني الفلسطيني ليس مادة يتعاملون معها ببرود الأكاديمي او وظيفية المؤسسة، إنهم يحبون بلادهم، ويدافعون عن سرديتها بشراسة، يستمتعون بعملهم، واكتشافاهم، ولا ينتظرون شكراً من أحد، لا يفكرون في منصب، ولا ينتمون لشِلل، أو أحزاب، هم مثل مزارع فلسطيني قديم يعيش على أرضه ومن أرضه، لا يهمه ماذا يحدث خارج حيّزه، المهم هو وجوده في الحقل، حراً، لا يشوش عمله غازي ولا تهدد مزروعاته ذئاب، هذه الطمأنينة أشعر أنهم يعيشونها وهم (يسرحون) في فجر أيامهم الى حقول التاريخ، يعشبون كتاباً ويزرعون استنتاجاً، ويسقون أملاً، ثم والأهم يقطفون الطمأنينة ويهدونها لنا، تماماً كما فعل الجميل عمر العاصي وهو يحكي عن زيتون فلسطين من الرامة الى بيت جالا من خلال عرضه لكتاب قديم، شجرة الزيتون:( تاريخها زراعتها أمراضها وصناعتها)، الكتاب من تأليف علي نصوح الطاهر، وقد طبع عام 1947.
يكتب عمر: مرشدنا هو علي نصوح الطاهر، الباحث والخبير الزراعي. وُلد في يافا عام 1906 ثم سافر إلى فرنسا ليدرس دبلوم الزراعة العالي في جامعة نانسي، ثم التحق بكلية العلوم في جامعة السوربون للحصول على الدكتوراه، إيمانًا منه بأن الزراعة مُقاومة، وما إن تخرّج حتى عاد إلى فلسطين ليبدأ مسيرته مع الزيتون مُنذ عام 1932 وحتى عام 1946 قبل أن ينتقل إلى الأردن ويؤلف كتابه «شجرة الزيتون» الذي طُبع في مطبعة «الطاهر إخوان» في يافا عام 1947، وفيه يسرد كُل تجاربه ومعارفه مع هذه الشجرة المباركة، الذي سيكون مرجعنا الأساسي في هذه الرحلة الزيتونيّة «المُتخيّلة» وكأننا نتجول مع هذا الكاتب الذي توفي عام 1982.
أما حمزة العقرباوي فهو، حكواتي وباحث فلسطيني، من قرية عقربا قضاء نابلس. يهتم بجمع الأرشيفات وخاصة التي تعبر عن الحياة اليومية في فلسطين، كما يعمل على تنظيم الجولات المعرفية في الأرض الفلسطينية بهدف ربط المورث الشعبي بالجغرافيا والأرض، لا تمل الجلسات مع حمزة، الساعات تصبح ثواني وهو يحكي بتدفق عجيب عن عادات القرية الفلانية، وعن علاقات القرى مع بعضها البعض وتاريخ كل شيء فيها، ولديه ذاكرة حفظ مذهلة للأمثال الشعبية القديمة التي لم تسمع بها الأجيال الشابة.
الجميل الثالث هو بلال شلش، مؤرخ ومرشح لبرنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية بجامعة بيرزيت، بالإضافة إلى عمله كباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تركز أبحاثه على دراسة تاريخ العمل العسكري الفلسطيني، ضمن اهتمامه الأوسع بتاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة قبل عام 1948 والحركات السياسية الفلسطينية المعاصرة، اهتم بلال بسرد ذاكرة المقاوم الفلسطيني قبل الـ 48، من أهم كتبه: يافا دم على حجر، حامية يافا وفعلها العسكري، دراسة ووثائق، ثم كتاب (شيء عابر نابلس تحت الاحتلال) ثم كتاب (داخل السور القديم نصوص قاسم ريماوي عن الجهاد المقدس).
جميلنا الرابع هو علي حبيب الله، هذا الباحث ليس فقط ناقل حكايات شعبية لم نسمع بها، تضيء على مراحل حياتنا النضالية والاجتماعية قبل 48، هو أيضاً راوٍ عبقري ومحلل رائع لقصص الفلسطيني مع الأرض والأساطير والهوية والعصابات الصهيونية، كل ذلك يربطه بسياق المقاومة والتشبث بالأرض، في مقالاته ومقارباته التاريخية، تشعر أن فلسطين لن تختفي، فروايتها موجودة بقوة وثمة من يرددها ويكتبها، اجمل ما سمعته منه عبر حوار بودكاست رحلة في الذاكرة المنسية للنهر والبحر، فمن حكايا الساحل الى برتقال يافا وسمك طبريا والحولة وجسور نهر الأردن.
شكراً للأربعة الجميلين، وهم من الذين حين تجلس معهم، تعرف أن مصطلح (حراس الرواية) ليس رفاهية تعبيرية أو زخرفة لغوية أو شعار، أو جملة جاهزة.