تاريخ النشر: 28 أيلول 2025


آراء
أوروبا في الطريق العكسي
الكاتب: عاطف أبو سيف

العالم يتغير، وأوروبا التي أوجدت إسرائيل وجلبت كل سكانها اليهود من أجل أن تحل مشاكلها تجد نفسها مجبرة على مواجهة الكيان الذي أقامته تعسفاً على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، ببساطة، لأن إسرائيل أثبتت بشكل قاطع أن العالم لا يعنيها بشيء وأنها فوق القانون وأكبر من كل الأخلاق المتعارف عليها بين الأمم. أوروبا فجعت بشكل كبير من هذه الوقاحة التي لم تكن تتوقعها لأنها، أي هذه الوقاحة، لم تنفجر قبل ذلك في وجهها. هذه المرة وجدت نفسها وجهاً لوجه مع جرائم إسرائيل التي يتم ارتكابها على الهواء مباشرة وأمام أعين العالم دون تردد. هكذا ظهر السؤال الأخلاقي بالنسبة لأوروبا: ماذا نفعل؟
وقبل هذا السؤال، ظهر الافتراض المنطقي الذي يقول، إن الصمت يشكل مشاركة في الجريمة. حتى إن شعارات كثيرة تم رفعها في التظاهرات في إسبانيا وإيطاليا وغيرهما من الدول تتهم من يصمت بالمشاركة فيما يجري. بات العالم أمام تحدٍ كبير بصمته أمام تلك الجرائم لأنها تحدث أمام عينيه، وهو لا يستطيع أن يقول، إنه لا يرى ما جرى وإن ما يتناقله الفلسطينيون مجرد أخبار ملفقة، فهو يرى ما يجري أيضاً على صفحات الجنود والمؤثرين الإسرائيليين الذين يتفاخرون بما يرتكب جيشهم من جرائم. مرة أخرى، الأهم في كل ذلك أن إسرائيل لا يهمها موقف العالم، فالعالم غير موجود بالنسبة لها ورأيه غير مهم.
وإذا كان هذا الافتراض المنطقي يقول، إن من يسكت شريك في الجريمة فإن المطلوب التحرك لوقف الجريمة أو أضعف الإيمان القول، إن «ما يجري ليس باسمنا ولا نؤيده». وكيف لأوروبا أن تفعل ذلك وهي من أوجدت إسرائيل وكيف وهي القابلة التي أصدرت شهادة ميلادها. مرة أخرى، يظهر التاريخ جليا وبقوة، وأظن أحد نقاط ضعف السردية الفلسطينية هو الإحجام عن الحديث حول التاريخ الأوروبي الحديث كمصدر للمشكلة في المنطقة، وهو إحجام ليس في محله، إذ إن علينا أن نعيد تذكير الأوروبيين بالكثير من الحقائق من باب «سيرة وانفتحت»، وأنا عادة ما أقوم بذلك في الكثير من مداخلاتي مؤخراً. فنحن كفلسطينيين غير مسؤولين عن أخطاء التاريخ الأوروبي. هذا لا يعني أننا نؤيد الجرائم التي جرت فيها بل على العكس، نحن نقول، إن فظائع وجرائم الحرب العالمية الثانية وقبلها العداء المتطرف لليهود في أوروبا خلال القرنين الماضيين لا يجب أن تتم ترجمته من خلال المساس بالحقوق الفلسطينية. نعم، هذا جوهر سرديتنا. والأهم أن المشكلة اليهودية في جوهرها أو بكلمات هيرتزل «المسألة اليهودية» هي مسألة أوروبية بحتة، فهي لم تكن تعني كل اليهود في العالم بل كانت تعني يهود أوروبا الذين تم طردهم من عشرات المدن الأوروبية مئات المرات في القرون السابقة. ما اقترحه أن التاريخ عاد للظهور خفياً في النقاشات الأوروبية حول ما يجري في المنطقة.
كل هذا تأسس على بشاعة ما تقوم به إسرائيل. الغريب أن العالم كأنه غير مصدق ما تقوم به إسرائيل وكأنها أي الأخيرة قبل ذلك كانت توزع شوكولاته وأيس كريم على الفلسطينيين، وكأن العصابات الصهيونية التي تسلحت بسلاح أوروبا لم تدمر قرابة خمسمائة قرية وبلدة وهجرت أكثر من مليون فلسطيني وبقرت بطون الحوامل وداست مجنزراتها الشيوخ والأطفال، وكأنها أيضاً لم ترتكب أكثر من سبعين مجزرة ومذبحة خلال النكبة وحدها. فجأة، اكتشف العالم هذا الوحش الذي قام بصناعته لا يستمع حتى لأي ملاحظة يبديها مدربه ولا ينصاع لا لأوامره فقط بل حتى لنصائحه. هنا كانت صدمة أوروبا الحقيقية. كيف يمكن أن نوقف كل هذا؟
مع تنامي الوعي الشعبي والعام بما يجري بفضل «السوشال ميديا» لم تعد الحكومات قادرة على الصمت، بل وجب عليها التحرك من أجل أيضاً حماية قواعد الأحزاب الانتخابية، هذه الأحزاب المشاركة في الحكومات صار التحرك بالنسبة لها جزءاً من سياستها الداخلية. لقد فرضت الحرب وبشاعة ما تقوم به إسرائيل على العالم أن يفتح عينيه على اتساعهما ومراقبة ما يجري. في بعض المناطق حتى بعض الحكومات اليمينية التي لم تعترف مثل إيطاليا بدأت تتململ وتحاول أن تجد طريقة تتحرك من خلالها بما يخفف بعض الاحتقان في الرأي العام خاصة مع تزايد ردات الفعل في الشارع على ما يجري.
في إيطاليا، بات الشعور يتنامى بوجوب تحرك الشارع من أجل إجبار حكومة ميلوني مثلاً على اتخاذ موقف حازم. المؤكد أن اعتراف بريطانيا، الذي لم يكن يتم لولا اعتراف فرنسا، أحرج كل اليمين في أوروبا. المواطنون باتوا على قناعة بضرورة إلزام حكوماتهم بالتصرف والتحرك. لذلك مثلاً ومع خروج سفن «أسطول الصمود» من الموانئ الإيطالية بجانب الموانئ الإسبانية والتونسية وجدت روما نفسها مضطرة للحديث عن وجوب حماية السفن والمواطنين الإيطاليين بقطع حربية كما فعلت مدريد. كما أن عدم وقف شحن السلاح لإسرائيل بشكل رسمي كما حدث في إسبانيا سيقود لتحرك المتظاهرين لاعتراض عمليات الشحن عبر الموانئ أو إضراب موانئ لوقف هذا الشحن.
وبالعودة للسؤال الأخلاقي الذي ظهر بشكل مزعج في الوعي الأوروبي «ماذا نفعل؟» كانت فكرة الاعتراف جزءاً من ردات فعل ستتسارع بعد ذلك إذا ما أحسن الفلسطينيون وضع الخطط الدبلوماسية اللازمة للدفع أكثر باتجاه تصحيح بعض من الاعوجاج والتشوه الذي حدث في مسار التاريخ حين تمت محاولة اقتلاع شعبنا من أرضه وتركيب إسرائيل عليها. لن تقف الأمور عند هذا الحد، ونتنياهو لا يفعل ما يفعله لأنه يريد أن يهرب من المحاكمة وفق سذاجة الأخبار والمحللين، بل لأنه يؤمن بما يقوم به وهو على قناعة بأن كل مجزرة بحق الفلسطينيين تقرب حلمه أكثر.
ثمة الكثير الذي يمكن فعله، وستفعله أوروبا. إسرائيل تقترب أكثر من التصادم مع بيئتها الحاضنة.