مساء الجمعة ١٩ أيلول، أصغيت إلى مواطن من غزة نزح إلى الجنوب يتحدث عن معاناة النازحين في دير البلح واستغلال أصحاب الأراضي لهم، إذ طلب الأخيرون أجرة قطعة الأرض التي سيقيم النازحون خيامهم عليها، وهو ما استغربه شاب نازح طلب من أصحاب الأراضي أن يرحموا النازحين الذين لا يملك أكثرهم أجرة مواصلات النزوح، فمن أين سيدفعون أجرة الأرض التي سينصبون عليها خيامهم، وسنقرأ، فيما بعد عن نازحين كثر ناموا في الشوارع، بل وقرب مكبات النفايات وفوقها، كما قال مراسل إذاعة أجيال محمد عمران الأسطل للإذاعة.
في صباح اليوم نفسه، كنت قرأت في صفحة الناشط عبد الكريم عاشور عن معاناته في ترك غزة والتوجه إلى دير البلح، ولكنه كتب إن بعض أصدقائه وفروا له مساحة من أرضهم، لينصب فيها خيامه دون مقابل.
«إن خليت بليت» يقول مثلنا الشعبي، وفيما عشناه بعد نكبة ١٩٤٨ عانينا أيضا من ظلم لا يتمثل بدفع أجرة الخيام التي ولدنا فيها، فقد استأجرت وكالة غوث اللاجئين أراضي لمدة ٩٩ عاما وتكفلت هي بتوفير الخيام.
ولكننا عانينا في جوانب أخرى، أذكر أننا في مخيمنا - حين كانت المياه التي توفرها لنا الوكالة تنقطع - أذكر أننا كنا نذهب، بحمالة المياه وتنكتي الماء، إلى قرية مجاورة فيها نبع ماء كان أحد سكانها يبيع الماء بجالونات على ظهر حماره، وغالبا ما كان يمنعنا فيصدنا ونعود خائبين، وفي فترة متأخرة، عرفت السبب الذي من أجله أقيمت مخيمات الخليل بعيدا عن المدينة، وهو سبب يبعث الأسى في نفس اللاجئ.
في مساء اليوم نفسه ١٩/ ٩، قرأت للناشط الغزاوي أشرف نصر منشورا يوجه فيه رسالة إلى (نتنياهو) و(كاتس) و(زامير) يحكي فيه عن «الناس اللي قاعدة بغزة»، وهو منهم، ويوضح فيها أن النازحين لا يجدون مكانا ينصبون خيامهم فيه، وأنهم لا يملكون أجرة للنزوح، ولا مالا لدفع إيجار للأرض التي سيقيمون عليها، وهذا في رأيه لا يخفى على الثلاثة المخاطبين ويطلب أشرف منهم أن يميزوا بين «حماس» و»الجهاد» وبين الناس الأبرياء الذين لا دخل لهم في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وينهي منشوره بالآتي:
«إذا قَدمت لي خيارين؛ الأول أن أنزح للجنوب وأعيش المعاناة وقلة الماء وتعب الحياة، والثاني أن أظل بغزة وأنفرم، راح اختار الثاني برضاي»، وما كتبه أشرف في رسالته سمعته من غزاويين عديدين عبر أشرطة فيديو أدرجوها.
ما قرأته في الرسالة وما سمعته أعادني إلى كتاب «التطهير العرقي» لـ(إيلان بابيه) وإلى ثلاثية إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم».
في كتاب (بابيه) نقرأ، في الصفحة ١٢٥ من الترجمة العربية التي أنجزها أحمد خليفة تحت عنوان «إنجاز المهمة في الشرق»، نقرأ عن عرب تعاونوا مع اليهود لأعوام كثيرة، وكان السؤال هو:
- هل يجب طردهم أيضا؟
وكانت الإجابة: نعم.
لقد طرد قسم من هؤلاء وتردد بعض الضباط في طرد آخرين، فوصف الضباط المترددون، مثل (بالتي سبيلا)، من بعض اليهود بأنهم خائنون.
لقد توقفت في كتابي «أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو، اسمي آدم. إلياس خوري نموذجا» أمام قصة مفيد شحادة في الرواية، وهي قصة ذكرتني بقصة الكاتب الإسرائيلي (بنيامين تموز) «منافسة سباحة» التي كتبها في العام ١٩٥١، وأتى فيها على علاقات طيبة بين العرب واليهود في فلسطين قبل ١٩٤٨؛ علاقات لم تمنع اليهودي من غض النظر عن قتل صاحبه العربي عبد الكريم الذي كان يسبح معه في بركة الأسرة العربية التي تردد عليها طفلا صغيرا مع أمه.
كان مفيد شحادة ووالده صديقين لليهودي الدكتور (ليهمان)، وكانا يوصلان الخضرة لكبانية اليهود في بن شيمين، وتحسبا لتوتر الأوضاع بين العرب واليهود أعطى (ليهمان) والد مفيد رسالة لعلها تنقذه وعائلته إن اشتدت المعارك وحوصروا.
في وقت حصار اللد/ الغيتو تذكر مفيد الرسالة فأعطاها لجندي إسرائيلي علّها تشفع له، ولكن دون جدوى.
هل ينسى كبار السن منا من متابعي الحرب في لبنان بعد العام ١٩٨٢ قصة انطون لحد الذي تعاون مع دولة إسرائيل وما آل إليه في نهاية حياته، حيث تخلت عنه ولم يجد مالا يدفعه للعلاج؟
مؤخرا، انتهيت من قراءة رواية جديدة للروائي الفلسطيني المقيم في رام الله أحمد رفيق عوض عنوانها «دابة الأرض» (٢٠٢٥) يكتب فيها عن فلسطيني في السلطة الفلسطينية ينسق، بحكم وظيفته، بضابط اتصال إسرائيلي، يزور الأردن لحضور مؤتمر يخص الأوضاع في الضفة الغربية، وحين يعود وتكون الطرق في أريحا مغلقة لأسباب أمنية لا يسمح له بالعودة إلى مدينته، وعندما يتصل بالضابط يعلمه الأخير بأنه لا يستطيع مساعدته وأن عليه الانتظار مثله مثل الآخرين. يعني قاومت أو تعاونت أو نسقت فالدولة الإسرائيلية في النهاية أهم منك، لأنك إن عشت فيها فإقامتك عابرة وإلى حين.
منذ العام ١٩٤٨ ما أرانا نعيش إلا التجربة نفسها. نعيش في الهامش وعلى الهامش؛ لأننا في نظر الإسرائيليين هامش و»عابرون في كلام عابر»؟؟!!