
غزة - دائرة الإعلام بالاتحاد - مصطفى صيام: في خيمة نزوح واهية تتنازعها الرياح على أطراف قطاع غزة، يجلس الشاب إبراهيم العرجا فوق كرسيه المتحرك، يحدّق بصمت في طفليه "كنان وشام" وهما يلعبان قرب الركام، كأنهما يحاولان بثّ الحياة فيما تبقّى من عالمه المكسور.
عيناه الغارقتان بالحزن لا تريان سوى أطياف الماضي؛ أصوات الجماهير وهي تهتف باسمه، ووهج الشباك وهو يرسل الكرة نحو المرمى، وصدى التصفيق الذي كان يهزّ المدرجات كلما سجّل هدفاً جديداً.
ولكن ذلك البريق خبا، فالشاب الذي كان يوماً نجماً في سماء كرة القدم الفلسطينية، وأحد أعمدة نادي خدمات رفح، بات اليوم أسير عجزٍ فرضته رصاصات الاحتلال الإسرائيلي، حين كان يسعى فقط وراء لقمة خبز لأطفاله الجائعين.
لقد كانت الحرب أشرس من حلمه، وأقسى من المستطيل الأخضر الذي لطالما راوده بالبطولات والمجد، فأخذت منه ساقيه، وتركته يصارع الوجع والعجز، فيما لا يزال قلبه يركض خلف الحياة.
قبل الحرب.. شغف اللعب وحلم المنتخب
العرجا يقول وهو يسترجع سنواته الخضراء بصوت يختلط فيه الحنين بالألم: "ارتبطت بكرة القدم منذ الطفولة وكانت بالنسبة لي كل شيء، بدأت اللعب في المدارس أشارك مع زملائي في البطولات المدرسية بمدينة رفح، لانضم بعدها إلى ناشئي نادي خدمات رفح، قبل أن أتوقف عن ممارسة معشوقتي لعام واحد فقط بسبب امتحانات الثانوية العامة 2015، ثم عدت مجدداً من خلال نادي القادسية الرفحي لمدة 4 مواسم، وانتقلت من جديد للنادي الذي تربيت فيه خدمات رفح في العام 2021".
ويضيف بابتسامة خافتة: "قبل الحرب كانت حياتي مفعمة بالأمل والتفاؤل، أمارس كرة القدم كل يوم، وأنتظر الدخول إلى المستطيل الأخضر لإسعاد الجماهير التي تزحف خلفنا، حققت البطولات مع فريقي وكنت أطمح للوصول إلى حلمي بتمثيل المنتخب الوطني لكرة القدم".
ويتابع حديثه عن حياته البسيطة قبل الحرب: "بجانب كرة القدم، كنت أعيش أنا وزوجتي وطفليّ كنان وشام حياة بسيطة وكريمة، نحلم بمستقبل أفضل لأطفالنا بعيداً عن الحروب والعنف والدمار".
رصاص الجوع.. لحظة الانكسار
يتنهد إبراهيم ويواصل حديثه الموجع: "جاءت الحرب الوحشية لتدمر معها كل شيء، وبدلاً من أن أركض في ميدان الملعب، بدأت رحلة المعاناة والألم والهروب من الخوف، ومع كل صوت من أصوات القصف والانفجارات، كان قلبي يهتز خوفاً ورعباً على أسرتي لأجد نفسي أعيش في خيمة أصارع فيها قسوة الحياة، وتنقلب حياتي رأساً على عقب من لاعب كرة قدم إلى نازح لا يقوى على شيء".
ثم بصوت يختنق بالحزن، يروي كيف انتهى حلمه برصاص الاحتلال: "مرت أيام طويلة لم نجد ما نأكله، وبدأ الضعف والمرض يظهر على أطفالي في ظل المجاعة التي استمرت لأشهر طويلة وارتفاع الأسعار الكبير، وعدم قدرتي المادية بعد أن فقدت كل شيء، وعدم وجود وظيفة أعتاش منها، حيث كنت أعتمد سابقاً على ما كان يقدمه لنا النادي من مبالغ بسيطة، لأجد نفسي عاجزاً ضعيفاً أمام جوع أطفالي، فقررت التوجه إلى مراكز المساعدات التي كانت تحيطها الدبابات الإسرائيلية ونزعت الخوف من قلبي من أجل أطفالي".
يكمل وهو يحدق في الأرض: "بينما كنت أنتظر دخول المساعدات للحصول على بعض الطعام والعودة إلى أطفالي، عدت محمولاً على الأكتاف بعد أن أصبت بثلاث رصاصات في قدمي وبطني، وبقيت أنزف لساعات طويلة قبل أن يتم انتشالي من قبل المسعفين، لأجد نفسي جسداً بلا روح وقلباً بلا نبض لا أقوى على المشي والحركة."
ويُناشد لاعب خدمات رفح بمرارة: "أتمنى من المؤسسات الدولية الرياضية والإنسانية الوقوف بجانبي للحصول على العلاج اللازم وإنقاذ حياتي، لأستعيد نفسي من جديد من أجل إعالة أسرتي التي باتت وحيدة في ظل عجزي الكامل عن توفير ما يلزمهم من طعام وشراب".
وبعد إصابته، يعيش إبراهيم صراعاً داخلياً كبيراً: شعور بالذنب لأنه لم يستطع حماية أطفاله، وخوف دائم من المستقبل، وحزن عميق لأنه لم يعد قادرًا على ممارسة شغفه، ومع كل حركة بسيطة في الخيمة، يشعر بمدى العجز الذي حوّل حياته من نجم ملاعب إلى مجرد جسد يحتاج للرعاية.
صوت الزوجة.. وجع لا يُحتمل
ليس بعيداً عن إبراهيم، تجلس زوجته إيناس قرب الخيمة ذاتها، تنظر إليه بعينين تفيضان بالدموع وهي تحاول أن تخفي وجعها الكبير، لكنها تفشل في ذلك.
تقول إيناس بصوت مرتجف: "زوجي لم يكن شخصاً عادياً، كان الفرح يملأ وجهه، والأمل يملك وجدانه، عشق كرة القدم فأحبته، وقدّم كل ما يملك من أجلها، كان يراوده الحلم بمستقبل أفضل ولكن الحرب دمرت حلمه ومستقبله الكروي".
وتؤكد وهي تلتقط أنفاسها، أن زوجها سخّر وقته لكرة القدم، لكنه لم يشعرها أبداً بالتقصير، فكان الزوج الصالح والأب الحنون، مشيرة إلى أن حياتهم كانت قبل الحرب مليئة بالرضا والقبول رغم الأوضاع الصعبة، وفقا لوصفها.
ثم تتابع بنبرة حزينة: "مع بدء الحرب تغير كل شيء وكأن عقارب الساعة توقفت وانقلب الحال لمشهد مرعب بتفاصيل قاسية ومؤلمة، فقدنا منزلنا وتملكنا الخوف والرعب، إلى أن وصل بنا الحال لنعيش في تلك الخيمة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ورغم ذلك كنت راضية بوجود زوجي وأطفالي بجانبي، تقاسمنا الخبز وتحدينا الواقع المرير".
وتتحدث عن الساعات العصيبة التي غيّرت حياتها: "عشت لحظات لا تُنسى بعد سماع إصابة زوجي الذي كنت أنتظره عائداً ببعض الطعام، ليعود ممدداً مغطى بالدماء وغير قادر على فعل أي شيء، بدأت رحلتنا من جديد مع الألم، خاصة وأن إبراهيم كان لنا السند والمعين خلال حياة النزوح".
وتختم حديثها بنداء موجع: "إبراهيم بات وحيداً يسيطر عليه الضعف والألم، لتزداد المسؤولية علينا من أجل أطفالنا الصغار، أرجو من الجميع الوقوف بجانبه ومساعدته على العلاج، فهو يحتاج لعمليات جراحية كثيرة كي يقف مجدداً على قدميه، ليس من أجل كرة القدم التي أصبحت حلماً بعيداً، بل من أجل أن يكون أباً قادراً على إعالة أبنائه".
وعلى غرار والدتهما، الطفلان كنان وشام يعيشان أيضاً معاناة نفسية شديدة، فهما لم يعودا قادرين على اللعب بحرية، وصوت الانفجارات يطاردهما طوال الوقت، وقد لوحظ كيف تغيّر سلوكهما، وأصبحا أكثر هدوءًا وخوفًا، وكأنهما يكبران قبل أوانهما، ويعيشان مسؤولية ما يحدث حولهما بشكل مبكر.
الرياضة الفلسطينية في مرمى النار
الإحصائيات الحقوقية تشير بدورها إلى أن الحركة الرياضية الفلسطينية تواجه تحديات وجودية في ظل الاستهداف المباشر من الاحتلال الإسرائيلي لها، إذ استُشهد أكثر من 950 رياضياً من أبناء الحركة الرياضية والشبابية والكشفية، بالإضافة إلى مئات الجرحى والأسرى، كما تم تدمير ما يقارب 280 منشأة رياضية تشمل مقرات المجلس الأعلى للشباب والرياضة، واللجنة الأولمبية، واتحاد الكرة، والملاعب والأندية والأكاديميات الرياضية، في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الرابعة التي تحمي المدنيين والمنشآت المدنية في أوقات النزاعات.
وتؤكد المادة 27 من اتفاقية جنيف، على وجوب احترام كرامة المدنيين وحمايتهم من أي أعمال عنف، فيما تشدد المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول على حماية المنشآت المدنية من الاستهداف، بما في ذلك المنشآت الرياضية والثقافية، ومع ذلك تواصل إسرائيل انتهاك هذه النصوص بوقاحة، في ظل صمت المنظومة الدولية الرياضية والإنسانية.
كما أن الرياضة الفلسطينية كانت هدفاً مباشراً للآلة العسكرية الإسرائيلية عبر كل الحروب، في جريمة ترتكب أمام أعين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم، اللذين يقفان عاجزين عن اتخاذ موقف حقيقي ينصف الرياضيين الفلسطينيين ويعيد لهم حقوقهم المسلوبة.
وعلى مدار أكثر من عامين، تسببت الحرب الإسرائيلية في إيقاف النشاط الرياضي في فلسطين بكل الألعاب، بينما تستمر إسرائيل في خرق القوانين بالسماح لأندية المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية بالمشاركة في بطولاتها، في وقت يشارك فيه العديد من اللاعبين الإسرائيليين، المنتمين إلى جيش الاحتلال، في عمليات القتل ضد المدنيين الفلسطينيين، ويتفاخرون بذلك عبر الإعلام.
ورغم ذلك، تقف الرياضة الفلسطينية اليوم شامخة في وجه هذا العدوان، تحاول النهوض من تحت الركام، تستمد قوتها من أمثال إبراهيم العرجا، ذاك اللاعب الذي وإن أطفأت الحرب أقدامه، فإنها لم تستطع أن تطفئ حلمه بالحياة.
قصة إبراهيم ليست مجرد حكاية رياضي مُصاب، بل مرآة لمعاناة شعب بأكمله، ولجروح تنزف في كل بيت فلسطيني، إنه رمز الصمود، رجل واجه الموت والفقر والجوع، لكنه لم يستسلم.
اليوم، ومع كل رصاصة أطفأت أحلامه الرياضية، يظل قلبه نابضًا بالأمل في حياة أفضل لأطفاله، وفي عودة كريمة للرياضة الفلسطينية التي تحملت سنوات طويلة من الظلم والاعتداء.
إن دعم إبراهيم وأمثاله ليس مجرد واجب إنساني، بل رسالة للعالم أن الحياة والكرامة لا تُقهر، وأن رياضة غزة لن تموت طالما هناك من يحلم ويكافح، مهما أطفأت الحروب أقدامه.