بقلم: إيلانا هيمرمان
«اليوم، نجوت، وأمس، نجوت أيضاً، لكني لا أعرف إذا كنت سأنجو في الغد»، كتب مؤخرا يسري الغول، الذي يوثق الموت والحياة في غزة، مدينته الموجودة تحت القصف الذي يستهدف تدميرها. «ذهبت إلى بيتنا من أجل جمع الأغراض التي تركتها زوجتي هناك. سقطت بالقرب مني قذيفة أطلقها جندي لم يرني ولا يعرف اسمي، وكأننا فقط ظل على هذه الأرض الملطخة بالدماء. ركضت في الأزقة الضيقة بحثاً عن طريق للحياة، بعيداً عن شظايا الموت.
في هذه الأثناء، أدركت أنني لست وحدي. لا، خرج مثلي مئات وآلاف، خرجوا ولم يعودوا. لقد جاؤوا لأخذ وحمل بقايا من بيوتهم، وقد أخذوا الشوارع والأزقة وحملوها معهم. الحياة هنا أمر صدفي. أنت تنجو بالصدفة أو تقتل بالصدفة. الجندي الذي يضغط على الزناد أو يوجه الطائرة الموجودة في السماء لا يرى وجهي ولا يعرف مكانتي في المجتمع، هو يعتبرني فقط هدفا، هدفا متحركا. ولكن نحن جميعنا، كل واحد منا، أشخاص يرتجفون، توجد لنا أسماء وأحلام وأولاد ينتظرون المياه أو رغيف خبز أو عناقا دافئا يحميهم. هذا المكان، غزة، يُعرّف من جديد الموت يوميا، ويُعرّف من جديد أيضا الصمت».
هكذا في غزة المدينة وفي كل القطاع: منذ سنتين «تعمل» إسرائيل هناك، وكل يوم من هذا التدريب البري (الذي يعني التدريب على القتال) يعرف السكان من جديد معنى الموت، وكل المجتمع الإسرائيلي والعالم كله معنى الصمت. الآن، في خضم الأيام التي تصل فيها مهمة القتل والتدمير في غزة إلى رقم قياسي شيطاني جديد، هنا في القدس حدث شيء غريب: في قاعة النقاشات الفاخرة في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في حي الطالبية، عرف «كبار الخبراء في العالم، الذين جاؤوا لإجراء نقاشات سرية من أجل الاستعداد لليوم التالي»، حسب مقال نشر قبل فترة قصيرة في «ملحق هآرتس» في 19/9، لماذا؟ «اليوم التالي لنتنياهو». هذه هي القضية التي وقفت في مركز النقاشات هناك حسب مقال ايتي مشيح. وللتفصيل: «كيف يعيدون إعمار دولة بعد أن قام النظام بزرع الدمار في كل زاوية جيدة فيها؟».
عُقد هذا اللقاء ذاته بين هؤلاء الأشخاص المقدرين لسبب ما بسرية. لولا هذا المقال الطويل، المتعاطف في أساسه، الذي خصصه لهذا اللقاء لسبب صحافي، لم اكن لأعرف عنه، وأيضا لم يكن ليهمني عدم معرفة ذلك. ولكن عندما عرفت مضمونه أصبح الأمر يهمني جداً، لأن هذا اللقاء مثّل بشكل مخلص ما أشغل الجمهور في المعسكر الليبرالي في إسرائيل، الذي هو أيضا كان يجب عليه قبل أي شيء مناقشة موضوع إزاحة نتنياهو في الانتخابات القادمة. هكذا فإن الخبراء مثل المدنيين يُعرفون كل يوم من جديد الصمت في إسرائيل على خلفية ما يحدث في غزة.
هذا أمر لا يصدق. دولة تسمي نفسها يهودية ترسل جيشها إلى حرب انتقام دموية، تصل إلى درجة الإبادة الجماعية. جنودها يخربون ويدمرون كليا منطقة من البلاد مأهولة باكتظاظ بأكثر من مليوني إنسان. هي تقتل عشرات الآلاف منهم، وتصيب وتجوع مئات الآلاف، وخلال ذلك تخرق مواثيق وقوانين دولية، جاءت إلى العالم بدرجة كبيرة في أعقاب القتل البربري في أوروبا لملايين اليهود وتدمير ثقافتهم وعالمهم، هؤلاء مثل أولئك، خبراء ومدنيون، يستعدون ليس «لليوم التالي» لقناع الفظائع في غزة، بل لـ»اليوم التالي لنتنياهو»، ليس ليوم محاسبة النفس، بل «لإعادة ترميم سلطة القانون في إسرائيل».
«إذا كانت البورصة مستعدة لليوم التالي فلماذا لا يستعد حماة الديمقراطية؟»، تساءل مشيح بشكل بلاغي كما يبدو (مع بعض الاستهزاء). في الحقيقة لم لا؟ في نهاية المطاف من غير المستبعد أنه في «اليوم التالي» سنستيقظ جميعنا تقريبا على عالم جيد: «وضع فيه المعارضة أيضا منتصرة، وكذلك تنجح في تشكيل ائتلاف ليبرالي، وتقرر مواجهة الانسحاب الديمقراطي، الذي حدث هنا، بشجاعة». عندها في الواقع ستكون هناك أيضا عوائق؛ لأنه توجد الآن تعيينات إشكالية مثل تعيين مفتش الخدمة العامة وتعيين رئيس «الشاباك»، «الذين سيكون بإمكانهم تقييد الحكومة القادمة... وهناك أيضا تغييرات لا يمكن التراجع عنها على الأرض مثل ما يحدث في المناطق»، يقول الخبراء، ويقترحون طريقة لإبعاد هذه العقبات، وخلال ذلك يتناولون بإسهاب موضوع «التعيينات الإشكالية».
هل تعمقوا أيضا في القضية التي تسمى «ماذا يحدث في المناطق»؟، ليس فقط في غزة التي انفصلت إسرائيل عنها كما يبدو وحبستها بين الجدران والأسوار والحواجز، بل في الضفة الغربية؟ مثلا، المذابح التي ارتكبها يهود برعاية جيش اليهود، والطرد الجماعي للسكان من بيوتهم في مخيمات اللاجئين؟ لم يتم التطرق إلى هذا الأمر من المقال. على أي حال، يؤمن الخبراء بأنه توجد أدوات للتعامل مع العقبات الأخرى. مثلا، إعادة توظيف أشخاص في منظمات معينة، حدث فيها فساد.
قال خبير من بين المقدرين الذين اجتمعوا في القاعة الفاخرة: «الآن يجب على يائير غولان الإعلان بأنه يريد وزارة الأمن الداخلي، وانه سيحاسب الضباط الذين نفذوا أوامر بن غفير، واستغلوا صلاحيات الشرطة بشكل معيب». وكان العائق المهم الذي يقف أمام إعادة ترميم سلطة القانون في دولة إسرائيل في «اليوم التالي» هو أجهزة معينة «حدث فيها إفساد». وضباط شرطة استخدموا الصلاحيات الشرطية «بشكل معيب». هذه ليست الأوامر غير القانونية الواضحة التي أعطيت لجنود الجيش الإسرائيلي، وهم ينفذونها بخضوع، حتى انهم مستعدون للتضحية بحياتهم الشابة من اجلها من تدمير وتسوية وقتل وقصف عشوائي للناس، النساء والشيوخ، والأطفال الذين يبحثون عبثا عن مأوى بين انقاض بيوتهم، أو يهربون بخوف للبحث عن ملجأ في الأزقة، حيث لم يبقَ أي مبنى مغطى تحت قبة السماء التي تطلق منها الطائرات القتالية المتقدمة والطائرات بدون طيار أسلحتها القاتلة، صباح مساء.
ما أقلق الخبراء في ذلك اللقاء، رغم احتمالية أن تنتصر المعارضة في الانتخابات، ليس انه في الائتلاف الذي سيتشكل في حينه من بينيت وليبرمان ولابيد وغانتس وحتى يائير غولان (بدون الأحزاب العربية)، أو حتى حزب واحد يقترح بديلا حقيقيا للنزاع الدموي الذي أدى أيضا إلى «جرائم» «حماس» في 7 تشرين الأول، وحرب التدمير ضد كل قطاع غزة، ما أقلقهم هو التوجهات المناوئة للديمقراطية داخل المجتمع الإسرائيلي: «ماذا سيفعلون مع حقيقة انه توجد الآن مجموعات في المجتمع مثل الحريديم القوميين، غير الملتزمين بقيم وثيقة الاستقلال؟»، هكذا تم طرح السؤال هناك. وكأنه حتى مجيء «الحريديم القوميين» احترمت دولة إسرائيل هذه القيم. هل في الواقع كل «القانونيين والخبراء الدوليين الكبار» لا يعرفون أنه في إسرائيل منذ إقامتها تم وضع الأنظمة ويستمر سن قوانين هدفها هو اجتثاث الالتزامات السامية التي تمت صياغتها في هذه الوثيقة؟. هكذا خلال سنوات وجودها، بدءا باستخدام «تعليمات الدفاع (في حالة الطوارئ)» الانتدابية التي تبناها القضاء في إسرائيل، وبقوتها فرض على الفور على العرب مواطني إسرائيل حكما عسكريا استمر تقريبا عشرين سنة (من 1948 حتى 1966)، ومرورا بسن قوانين الأراضي على إشكالها، التي خصصت الأراضي لليهود فقط، وانتهاء بالقانون الذي يسمى «قانون الأساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي» (2018)، والقوانين المخيفة الكثيرة التي تم سنها في الوقت الحالي.
صحيح أن إسرائيل هي بالتأكيد «دولة قانون»، دولة حسب القانون لم تكن ولن تكون فيها في أي يوم «مساواة كاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لكل مواطنيها بدون تمييز في الدين، العرق والجنس»، أيضا وليس «حرية عبادة، ضمير، لغة، تعليم وثقافة». كل واقعها هو التمييز ضد مواطنيها غير اليهود، وفرض الدين أيضا على مواطنيها اليهود.
مع ذلك، لو انه ما زال يمكن النضال بطريقة ما من اجل إنجاز هذه المهمة الجسيمة في إسرائيل التي تزخر بالعديد من المنظمات الشجاعة من اجل حقوق الإنسان، فإن جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الشعب الذي كان أبناؤه وبناته ضحايا إبادة جماعية لا يمكن إصلاحها، سواء أخلاقيا أو عمليا على الأرجح. هذه هي القضية التي يجب طرحها على جدول الأعمال الآن وفي المستقبل.
مع ذلك، مثلما صرف المنقذون الأكاديميون، من إسرائيل ومن الخارج، الذين اجتمعوا في القدس، الانتباه عنها، أيضا غاب الوعي عن هذه القضية الجوهرية والرغبة في علاجها إلى درجة كبيرة عن الخطاب العام في إسرائيل.
في نهاية الثمانينيات، تمت استضافتي عدة مرات في غزة. ومن بين الأشخاص الرائعين حقا الذين عرفتهم هناك وأصبحت لي صداقة معهم، غازي أبو جياب. في صباه قضى 15 سنة في السجون في إسرائيل، وعندما كبر أصبح شخصاً يحب السلام. برفقته، تعرفت في غزة على يساريين آخرين، من بينهم زعيمهم المثير للانطباع، حيدر عبد الشافي، ومعاً تعلقنا بشكل ما بالأمل في السلام.
في تلك الفترة، تعهدت إسرائيل حركة حماس، التي كانت لا تزال في مهدها، ومثلت أقلية ضئيلة في القطاع. بدون دعم إسرائيل – الذي كما هو معروف لنا جميعا لم ينتهِ هناك – كان من شبه المؤكد أن الحركة لن تنمو وتتعزز بهذه الصورة. وبعد أن استولت «حماس» على السلطة في القطاع اضطر غازي إلى الهرب هو وعائلته إلى المنفى خوفا من ملاحقة السلطة الدينية الجديدة. وقد استمر في الأمل بالسلام، وبعد ذلك اصبح شريكا في «منتدى التفكير الإقليمي» التابع لمعهد «فان لير» الإسرائيلي، وتنشر مقالاته سواء من قبل المنتدى أو في الصحف الإسرائيلية. وهاكم ما كتبه في الفترة الحالية:
«عشرون سنة من حكم الحكومات اليمينية في إسرائيل وسياسة إدارة النزاع هي التي أوصلت المنطقة إلى الأزمة الأكثر عمقا في تاريخ النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. لا شك أن أحداث 7 تشرين الأول هزت المجتمع الإسرائيلي، وأدت إلى صدمة عميقة. وفي الوقت ذاته لم يتخيل المجتمع الفلسطيني في كوابيسه الأسوأ بأن إسرائيل، رغم الفظائع التي حدثت في بلدات غلاف غزة، ستشن حرباً بربرية في المقابل، ونزع الإنسانية المطلق عن سكان غزة الذين يتم وصفهم على الأغلب بحيوانات بشرية، مسموح بل ويجب محوها. هذا هو الخط الذي يفصل بين إسرائيل امس، التي أيّد الكثير من سكانها اتفاقات السلام مع الفلسطينيين، وبين إسرائيل اليوم، التي توقفت عن رؤية الفلسطينيين كبشر.
«حسب معرفتي بسكان غزة كابن لهذا المكان، يمكنني الشهادة بألا احد يقدر أن معظم المجتمع في إسرائيل سيتوحد على هدف واحد وهو تسوية غزة بالأرض والقتل الجماعي ومنع إدخال المساعدات الإنسانية. معظم سكان غزة البالغين يتساءلون: هل هؤلاء هم اليهود الذين عرفناهم ذات يوم وصدقنا أننا سنتوصل معهم إلى سلام؟ هؤلاء السكان عرفوا اليهود في إسرائيل في مناسبات وأماكن كثيرة. حتى لو أنه لا يمكن تصور ذلك الآن، كانت فترة فيها نظرة الأغلبية في المجتمعين تتميز بالتسامح والاستعداد للتعايش بسلام معا، الواحد إلى جانب الآخر»، («محادثة محلية»، 2/7).
غزة، التي يكتب عنها غازي أبو جياب، غير معروفة للخبراء الذين اجتمعوا من اجل الاستعداد لـ»اليوم التالي لنتنياهو»، ومن المؤكد انه في هذه المرحلة هي لا تعنيهم بشكل خاص، سواء هم أو معظم الجمهور في البلاد. معظم المجتمع الإسرائيلي يؤيد الحرب، ولا توجد محاسبة النفس على رأس أولوياته. على اقل تقدير، ليس الآن وليس في «اليوم التالي».
مع ذلك، الأقوال التي قالها البروفيسور توم غينسبورغ، احد المشاركين في اللقاء في القدس، «في وقت ما سيتعين على المجتمع الإسرائيلي مواجهة الفظائع في غزة. هذه صدمة لا يمكن الهروب منها». وأضاف مشيح: «ربما من هناك ستبدأ إعادة الترميم». وأنهى المقال بنغمة تفاؤل. ولكن دولة إسرائيل اليهودية كما هي لا يوجد لها ترميم آخر. حتى على أنقاضها الأخلاقية، التي تهب الرياح الآن في الرأي العام العالمي لتعطي الأساس لافتراض أنها لن تكون أخلاقية فقط، يجب أن تقوم دولة مختلفة. هذا هو الموضوع الذي سيقف على أجندة «اليوم التالي» لمن يحبون الحياة في أوساطنا والذين سيبقون هنا.
عن «هآرتس»