كما في خيوط الرواية، تجمعت الخيوط وصولاً لما هندسه الغزاة: عرض واحد وحيد، وهو ما سيتم قبوله، لأن الخيار الثاني هو مواصلة المجزرة، ولكن هذه المرة، فإنها بتغطية أميركية معلنة بوقاحة.
لن يضيف استعراض البنود، فقد أوصلنا الاحتلال وحلفاؤه جميعاً، وطنياً وعربياً وعالمياً، إلى السعي لتحقيق وقف القتل، فأي حرب تلك التي كانت وتكون على مدنيين، تضع دولة الاحتلال شروطها لتوقف القتل!
والآن بعد أن نطمئن جميعاً إلى توقف المجزرة، يمكن لنا أن نضيف ما يمكننا إضافته بهدوء:
- جعل وقف الحرب في سياق حق تقرير المصير بإقامة الدولة هدفاً مؤكداً، مدعومين بالزخم الشعبي العالمي والرسمي.
- وقف الحرب المسعورة لا يعني إعفاء الاحتلال من الجريمة الكبرى، فلا تضيع الحقوق بالتقادم. لذلك فإن وقف المجزرة شيء ومحاسبة مقترفيها شيء آخر، خصوصاً أن من يقومون بذلك هم أصلاً من خارج فلسطين. لقد كان الاحتلال دوماً يضع شروطاً فيما يتعلق بإطلاق سراح الأسرى، فيستثني منهم «من يداه عليها دم»؛ فكيف بمن على أيديهم بحر دماء!
- فلسطينياً، أصبح معروفاً ما يجب أن نفعله من روافع متنوعة لاستئناف وحدة الضفة وغزة، حيث فشل الاحتلال بالفصل، كما فشل في التهجير والضم. ومن المهم الانتباه لخطابنا السياسي، وعدم التعاطي المطلق ولا النسبي مع ما يتم تصويره من سوء إدارة وحكم؛ فنحن كغيرنا في هذا العالم، دون أن ننسى بأن رأس الهرم الاحتلالي متهم بالفساد. لقد قامت السلطة الوطنية بإنجازات مهمة على الأرض، وهي تنسب للشعب الفلسطيني وكوادره، لعلّ ما فعلته كوادر الصحة من معجزة في الحرب على غزة يدل على أننا شعب ومؤسسات قادرة. كذلك فإن من يستقصِ حال التعليم في ظل المجزرة سيجد معجزات حققها الناس والموظفون والمتطوعون. كما لا ننسى ما تم من تعاون ممكن بين الضفة وغزة.
أما بخصوص المصالحة، فقد صارت وراء شعبنا، لأن المهم هو الشعب الباقي حتى ولو كان جريحاً، فلن تسوّل لأحد اليوم أي فرصة لتخريب ما نسعى إنجازه، فلا قائد على تل ركام، بل قائد يزيل الركام ويبني.
هناك أمران سبق الحديث عنهما، وما نرجو هو التريث في الحدث والتخاطب الداخلي والخارجي، من خلال قيام طواقم عالمة بالحال تقدم للمستوى السياسي مقترحات مهمة.
أما الأول، وبهدوء، ومسؤولية، فهو قضية أهالي الشهداء والأسرى:
تتبع ما كان منذ اتفاق أوسلو، يوصلنا إلى أن القضية المثارة من اليمين المتطرف ليس لها أصل، فطوال الوقت والسلطة الوطنية تقدم لأهالي الشهداء والأسرى. كما أن سياق الحلّ السياسي في سياق أوسلو أصلاً جعل الاحتلال يتفهم معنى تحرير الأسرى كونهم يتبعون لمنظمة التحرير، فكان من العادي تحريرهم وفق مقتضيات السلام، وهذا ما تم قبوله من دولة الاحتلال، باستثناءات محدودة من الأسرى من ذوي الأحكام العالية. ولم تعترض حكومات الاحتلال على ما تقدمه السلطة من دعم طبيعي للعائلات.
من ناحية أخرى، ووفقاً للقوانين الدولية، فإنه في ظل وجود أسر للشهداء والأسرى، فإن على سلطة الاحتلال تأمين حاجات المدنيين، وتخصيص ما يسمى تمويلاً خاصاً للمندرجين تحت مصطلح «الشؤون الاجتماعية»؛ فقتل المقاومين واعتقالهم أمر، وعيش الأسر أمر آخر. ومعلوم أن سلطات الاحتلال منذ عام 1967، كانت تعرف عن جهود إغاثة الأسر المحتاجة بمن فيها أسر الشهداء والمعتقلين كونها أسر بلا معيل، أو أسر ترأسها نساء أو فتيان بحاجة للدعم.
الأمر الثاني وهو التحريض في الكتب المدرسة، وهو ما تمت المبالغة به. إن المستقصي لهذا الوصف يجد بسهولة أن حكومات اليمين تبالغ بذلك كما تبالغ بتشجيع السلطة «لأعمال العنف»، كذلك تتباكى كذباً على أحوال شعبنا، من خلال الحديث عن الفساد وضرورة الإصلاح، وللأسف فقد أصبح هذا الخطاب يجد آذاناً صاغية من الاتحاد الأوروبي الذي ربط دعم شعبنا المقرصنة أمواله، والذي يعاني من الاحتلال، بتغيير المناهج. إن التربويين والمختصين في الكتب المدرسية هم من يشكلون المرجعية، كونهم يكتبون من سياق شعبهم وتاريخه، فكل الشعوب لديها مقدسات وخصوصيات وطنية وشهداء؛ فإيراد نص عن مناضل أو مناضلة، إنما يتم من خلال سياق وطني تاريخي، وهذا أمر مقبول لتلك الشعوب التي تتخلص من الاحتلال.
لنتأمل جميعاً أصدقاء وأعداء، في المقارنة بين أثر لنصّ في التأثير التحريضي المحتمل «لممارسة العنف»، وبين من يقوم بعملية القتل علناً؛ فماذا سيكون المحتمل من فعل مقارنة بقتل يتم؟
وآخر القول هنا، وللتذكير، فقد تم تأسيس لجنة مراقبة التحريض في الإعلام والتعليم عام 1999، تكونت من ممثلين مراقبين من الولايات المتحدة ومنظمة التحرير، ودولة الاحتلال، وظيفتها مراقبة ما يتم من تحريض لدى الجانبين، وليس لدى الجانب الفلسطيني فقط. وللعلم لم يكن المنهاج الفلسطيني الأول قد خرج للنور، فقد ظهر في أيلول عام 2000. وقد حاز على ثقة منظمة اليونسكو. لكن على الجهة الأخرى، فإن التحريض على شخصية الفلسطيني والعربي موجودة في مناهج الاحتلال وفي إعلامه، بل وللمفارقة فإن ذلك يتم علناً وصراحة من أعضاء من حكومات الاحتلال المتطرفة المتعاقبة.
إذاً ليكن الخطاب الفلسطيني هو المعاملة بالمثل، وهذا هو العدل. كما أن فتح هذا الملف في ظل مجزرة الاحتلال يشكل قضية حساسة لشعب لم تتوقف جروحه. إذاً لتترك الأمور بهدوء، لتراعي ما قد يتحقق من خطوات بالاتجاه نحو السلام الضامن للسيادة والكرامة، ولنذكر بحديث رئيس حكومة الاحتلال حول دولة إسرائيل الكبرى، فهل وضعت دولة إسرائيل حدوداً لها حتى نضع نحن حدوداً؟ إن 77 عاماً من الاحتلال لا يلغي تاريخاً عمره آلاف السنوات. إن وضع الحدود مرتبط باتفاقية سلام ترسم الحدود.
قلوب شعبنا وقيادته مفتوحة، فنحن، الكنعانيين المزارعين محبي الحياة لا الموت، نقبل بدولة ودولتين، يمكننا العيش لكن من كان يسعى لإلغائنا، وقتلنا فكيف نسلّم له البلاد؟
إن العالم، بمن فيه الولايات المتحدة الحليف الأقوى لدرجة الشراكة في دمنا، كذلك الاتحاد الأوروبي، وغيرهم يعرفون الحاضر تماماً، والماضي، فلا ينبغي أبداً مكافأة الاحتلال على جرائمه وتحريضه بنفي وجودنا الوطني الثقافي الإنساني.