تاريخ النشر: 27 تشرين الثاني 2025


آراء
انقسام الحزب الجمهوري حول إسرائيل
الكاتب: سنية الحسيني


حذرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية واسعة الانتشار قبل أيام من صعود ما وصفته بـ «معاداة اليمين للسامية»، مؤكدة ظهور انقسامات خطيرة بين الجمهوريين، حول دعمهم لإسرائيل والموقف من اليهود، في تحول خطير في موقف الحزب التقليدي.
لم يشكل اليمين الأميركي يوماً مصدر خطر على إسرائيل، وطالما جاء ذلك القلق من قبل تيار اليسار، خصوصاً في الحزب الديمقراطي وتحديداً جناحه التقدمي. واجه الإعلامي المحافظ تاكر كارلسون انتقادات حادة بعد إجرائه مقابلة مع القومي الأبيض نيك فوينتس، والتي تجنب جيه دي فانس نائب الرئيس التعليق عليها، ما عرضه أيضاً للانتقاد، لأنه أعلن من قبل عن معارضته لفوينتس.
وحذرت ديبورا ليبشتات، مبعوثة إدارة الرئيس جو بايدن السابقة لمكافحة معاداة السامية، من أن مقابلة كارلسون تضفي شرعية على أفكار فوينتس، وتنقلها إلى المجال السياسي العام.
يعتبر نيك فوينتس وكانديس أوينز وآخرون ظاهرة اليوم في الولايات المتحدة، برزت في الساحة الأميركية خصوصاً بعد أحداث ٧ أكتوبر، وإن كانوا موجودين من قبل، لكن ارتفاع نسبة مشاهدتهم، وتتبع القضايا التي يطرحونها في محطاتهم الخاصة، في الإعلام وبين المهتمين في السياسة، يشكل ظاهرة مهمة في الساحة الأميركية حالياً.
في الشهر الماضي، بلغ متوسط عدد مشاهدي برنامج نيك فوينتس «أميركا أولاً» مليون مشاهد لكل حلقة، في حين بلغ متوسط عدد مشاهدي كانديس أوينز حوالى مليونين و٣٠٠ ألف مشاهد، ووصل متوسط عدد مشاهدي تاكر كارلسون مليوناً و٢٥٠ ألف مشاهد.
وحصدت مقابلة كارلسون مع فوينتس وحدها ٦ ملايين و٥٠٠ ألف مشاهد.
في حلقته الأخيرة على سبيل المثال، واصل فوينتس التركيز على التباين بين تيارين في اليمين أحدهما مؤيد لإسرائيل والآخر معارض، ما يمكن اعتبار أنه يعكس صراعاً أيديولوجيا أوسع داخل اليمين الأميركي حول إسرائيل، وداخل الحزب الجمهوري نفسه.
وقد اعتبر تقرير لصحيفة نيويورك تايمز أن تلك المعضلة قد تصبح محور صراع خلال الانتخابات التمهيدية المقبلة العام ٢٠٢٦، والانتخابات الرئاسية العام ٢٠٢٨.
ويتبنى فوينتس، الشاب العشريني، موقفاً معارضاً للدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، وأشار في مقابلته مع كارلسون إلى ضرورة أن يعتمد أي دعم على «مصلحة أميركا أولاً» وليس على ولاء تقليدي لإسرائيل.  وفي المقابلة ذاتها، وصف فوينتس اليهود بأنهم غير قابلين للاندماج، ونفى إمكانية فصل اليهود عن إسرائيل.
وتعتبر مواقف فوينتس خطيرة في مجتمع طالما اعتبر الاقتراب من تلك القضايا ممنوعاً، نظراً لشعبيته المتنامية.
على خلفية تلك المقابلة، نشب انقسام في أوساط التيار المحافظ الجمهوري، فقد اعتبر بعض القادة تصريحاته معاداة للسامية، بينما اعتبر البعض الآخر، خصوصاً ذلك المؤمن بتوجه «أميركا أولاً»، أن تصريحات فوينتس تندرج ضمن حرية التعبير داخل الحزب، وأن مناقشة دور إسرائيل في السياسة الأميركية ينبغي أن تكون مبنية على مصلحة الولايات المتحدة أولاً، وليس الولاء الأعمى، فاتحة المجال لإمكانية توجيه انتقادات لليهود أو إسرائيل.
وتاكر كارلسون هو صحافي ومذيع وناقد رأي مخضرم، كان أحد أبرز مقدّمي البرامج في شبكة فوكس نيوز، وقدم برنامجاً مشهوراً فيها حتى العام ٢٠٢٣، إلا أنه انتقل بعد ذلك للتحدث عبر منصات الإعلام الرقمي، مثل شبكة «إكس».
وبقي كارلسون مؤثّراً، رغم خروجه من فوكس نيوز، لأن كثيراً من الجمهور المحافظ في أميركا يتابعونه، وتلقى أفكاره صدى كبيراً في تلك القطاعات.
ويتبنى كارلسون أفكاراً جمهورية محافظة، في الهجرة والتعددية والعولمة، واتخذ في السنوات الأخيرة موقفاً ناقداً بشدّة لإسرائيل وعلاقتها ببلاده.
فقد انتقد بقوة الدعم العسكري والسياسي الأميركي لإسرائيل، خصوصاً عقب حرب غزة، واعتبر أن أميركا تُعرّض مصالحها للخطر، ودعا إلى «حيادية أميركية» في الصراع، فهو لا يدعم الفلسطينيين، وإنما يركز على مصالح بلاده.
وانتقد تاكر كارلسون في مقابلة مع نيك فوينتس وكذلك مع نالين هيلي إسرائيل، حيث ناقش كارلسون مع هيلي العلاقات الأميركية الإسرائيلية وتأثير إسرائيل في السياسة الأميركية، وكرر وجهة نظره بأن إسرائيل تُمثل «عبئاً استراتيجياً» على الولايات المتحدة وليست مصدر قوة.
وصف هيلي، وهو ابن نيكي هيلي، السفيرة السابقة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة خلال ولاية ترامب الأولى، وبدأ يظهر في العام الماضي كصوت يميني شاب ومؤثر، أن الدعم العميق لإسرائيل مضرّ، معتبراً أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تنظر إلى إسرائيل كحليف «استثنائي دائم».  ويقدم هيلي نفسه كصوت «جيل شاب» غير راضٍ عن التحالف التقليدي بين التيار المحافظ في أميركا وإسرائيل.
وتعتبر كانديس أوينز ناشطة سياسية ومعلقة إعلامية معروفة بمواقفها المحافظة، اشتهرت بانتقادها القوي لليبرالية، وفي السنوات الأخيرة أصبحت وجهاً بارزاً ضمن ما يُسمى «اليمين الأميركي الجديد»، تتحدث في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الجيل الأكبر من فوينتس، وتحظى بمتابعة ومشاهدة كبيرة، لا سيما بين قطاعات واسعة من اليمين الأميركي.
ركزت أوينز في عرضها الأخير على توضيح علاقة إسرائيل والصهاينة بمقتل تشارلي كيرك، معتبرة أن لديها أدلة أو إشارات تفيد بذلك.
ويعتبر ذلك مجرد عينه لظاهرة أكبر تنتشر في الولايات المتحدة، يقودها مجموعة من اليمينيين، بعضهم من جيل الشباب، وبعضهم الآخر إعلاميون أو مؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي، يحصدون نسبة متابعة مقبولة من قبل الجمهور اليميني والجمهوري، ولهم مواقف نقدية واضحة تقوم على أساس تجنب التحالف التقليدي مع إسرائيل بهدف تحقيق «مصلحة أميركا أولاً»، منهم على سبيل المثال رجل الأعمال والناشط فيفيك راماسوامي، والإعلامية كيري لاك، والمؤثرة الإعلامية لورين تشين.  وهناك تحولات مهمة في مواقف جيل الجمهوريين الشباب تجاه إسرائيل، حيث تراجع مستوى التأييد التقليدي لها بعد حرب غزة وما تبعها من تصعيد مع لبنان وإيران.  ووجدت دراسة أُجريت في جامعة نورث وسترن أن ٤٣ في المائة فقط من الشباب الذين يُعرّفون أنفسهم كجمهوريين يدعمون إسرائيل، مقارنة بنسبة ٧٢ المائة بين الفئة العمرية ٦٥ عاماً فأكثر.
كما أظهر استطلاع للرأي لصحيفة «واشنطن بوست» أن نسبة الجمهوريين تحت سن الخمسين الذين ينظرون إلى إسرائيل بإيجابية انخفضت بشكل ملحوظ من ٦٣ في المائة قبل الحرب على غزة إلى ٤٨ في المائة فقط الآن.
في سياق متصل، أعلنت النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين قبل أيام استقالتها من الكونغرس، على خلفية خلافها مع ترامب حول ملف جيفري إبستين وملفات أخرى، بعد سنوات من ولائها الشديد لترامب.
وأعربت غرين عن استنكارها لما وصفته بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، كأول نائبة جمهورية تقر بذلك، معتبرة أن القصف المستمر على المدنيين وقتل الأطفال يمثل جريمة ضد الإنسانية.
وأشارت إلى أن الدعم الأعمى لإسرائيل من قبل الحزب الجمهوري، تحت تأثير لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، يأتي على حساب القيم الإنسانية ويغذي الصراعات الإقليمية على حساب معاناة المدنيين الأبرياء.
وأكدت أنها تفضل الانسحاب من منصب يفرض الولاء الأعمى ويقيد حرية التعبير، وأن انتقاد إسرائيل باعتباره عداءً للسامية هو وصف تلاعبي.
وتحمل استقالة غرين بعداً استراتيجياً، يتعلق بالتصدع الحاصل داخل حركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، في الحزب الجمهوري، خصوصاً بعد أحداث ٧ أكتوبر، ومواقف ترامب المثيرة للجدل في ملفات داخلية وخارجية عديدة أخرى. فقد دعا رئيس مجلس النواب الجمهوري المؤيد لإسرائيل مايك جونسون لضرورة عزل من وصفهم بالانعزاليين، في الحزب الجمهوري، وهم المناهضون للحروب ودعم إسرائيل فيها، في الانتخابات النصفية، وهو ما ينوي القادة المؤيدون لإسرائيل محاربته، حيث باتوا يشكلون توجهاً متنامياً داخل الحزب، يتحدى مواقفه التقليدية الداعمة لإسرائيل في سياسة البلاد الخارجية.
وقد لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» النظر مؤخراً عندما أشارت في تقرير لها إلى أن تلك المعضلة قد تصبح محور صراع خلال الانتخابات النصفية المقبلة للكونغرس العام ٢٠٢٦، والانتخابات الرئاسية العام ٢٠٢٨.  وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة ابتعاد الجمهوريين تدريجياً عن دعمهم التقليدي التلقائي لإسرائيل.
فقد أظهر استطلاع أُجري أواخر شهر آب الماضي أنّ ١٤ في المائة من الجمهوريين وصفوا ما حدث بغزة بحق الفلسطينيين بـ»إبادة جماعية»، واعتبر ٢٤ في المائة منهم أنّ الرد العسكري الإسرائيلي تجاوز الحدود»، وفق استطلاع آخر، أجرته وكالة «أسوشيتد برس» ومؤسسة «نورك»، رغم أن تلك النسبة تبقى أدنى مقارنة بفئات المجتمع الأميركي الأخرى.  فقد أكد نصف المستطلع رأيهم من المستقلين، و٧٠ في المائة من الديمقراطيين أنّ رد إسرائيل في غزة تجاوز الحدود.
إلا أن النتيجة الأهم هي تلك التي كشف عنها استطلاع ثالث أجري من خلال «أسوشيتد برس» اعتبر فيه ٥٧ في المائة من الجمهوريين أن الدعم الأميركي مكن إسرائيل من أفعالها في غزة، بينما تجاوزت نسبة اعتقاد المستقلين والديمقراطيين لذلك أكثر من ٦٣ في المائة و٧٢ في المائة على التوالي.
ويؤكد معظم الجمهوريين على ضرورة عدم تدخل الولايات المتحدة في أي حرب إسرائيلية مع إيران، والتفاوض مع إيران.  واعتبر دان كالدويل، المستشار الكبير السابق في البنتاغون والمقرب من وزير الدفاع  بيت هيغسيث، أن ميل إسرائيل لخوض حرب مع جيرانها يُعرّض القواعد الأميركية للخطر، ويُجرّ الولايات المتحدة إلى حرب، وأن انتهاء الحرب يُتيح للولايات المتحدة فرصة للقيام بما حاولت وفشلت فيه على مدار عقد تقريباً، وهو ترشيد وتقليص وجودها في الشرق الأوسط.
ووصف مُقدّم البودكاست الشهير ثيو فون، الذي استضاف ترامب خلال حملته الانتخابية العام الماضي ويُنسب إليه الفضل في إعادة تعريفه بالجيل الشاب، بأن ما تقوم به الولايات المتحدة يبدو وكأنه يوجه لصالح إسرائيل فقط.
وتُثير آراء فون نقاشاً متزايداً حول العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وكما هي الحال مع التقدميين في الحزب الديمقراطي، تُشكك أصواتٌ في حركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» الآن في شرعية الايباك.  
من الجدير بالملاحظة أيضاً أن مؤسسة هيريتيج، التي صاغت جزءا كبيراً من سياسة ترامب، تدعو إلى الإلغاء التدريجي للمساعدات المقدمة لإسرائيل. كما أن معهد أميركا للسياسات (AFPI)، الذي يركز على تعزيز أجندة «أميركا أولاً» داخل التيار المحافظ للحزب الجمهوري، قد نشر ورقة مؤخراً تدعو لضرورة تراجع الدعم الأمني والاقتصادي الأميركي لإسرائيل، أي تطرح إعادة تدوير للدعم التقليدي، في إطار مصلحة أميركا أولاً. وكلا المركزين يُمثل ركائز فكرية يمكن أن تؤثّر في صُنّاع القرار داخل التيّار الجمهوري.
ومن المعروف أن الحزب الجمهوري يدعم إسرائيل بأغلبية كبيرة، رغم أن دعم إسرائيل من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري يعتبر قضية إجماع بينهما.
قبل العام ١٩٤٨ بدأت الولايات المتحدة بدعم الوجود اليهودي في فلسطين، وساعدت في ترسيخ ذلك الوجود، خصوصاً في نهاية عهد الانتداب البريطاني. وبعد ذلك العام بدأ دعم تصاعدي رسمي من قبل الحزبين دون تحفظات لإسرائيل. في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، شهدت الساحة السياسة الأميركية تحالف اليمين الإنجيلي مع الحزب الجمهوري، بعد قراره خوض غمار السياسة في تحول لافت، ومهد ذلك التطور الطريق لوصول رونالد ريغان إلى الحكم، وتصاعد دور ومكانة الإيباك في الحياة السياسية الأميركية وتدخلها في صلب سياسة البلاد، وخصوصاً في رسم سياستها تجاه إسرائيل.
منذ العام ١٩٤٨، كان دعم إسرائيل قضية مُتفقاً عليها بين الحزبين في الولايات المتحدة.  انخفضت شعبية إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي تدريجياً، إلا أن خطاب نتنياهو في الكونغرس ضد أوباما والاتفاق النووي مع إيران في العام ٢٠١٥ شكل نقطة تحول مهمة في تعميق ذلك الانخفاض في الدعم الديمقراطي لإسرائيل.
واليوم نشهد انخفاضاً ملحوظاً في دعم الحزب الجمهوري واليمينين والقوميين للعلاقة غير الطبيعية بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
لم يعد التحالف الأميركي الإسرائيلي ثابتاً كما كان، وهناك شرخ يكبر يوماً بعد يوم، وبدأ بالفعل داخل الحزب الجمهوري نفسه، الذي اعتبر لعقود الداعم بقوة لإسرائيل والمؤمن بها.
وهذا الشرخ قد يتحول تدريجياً لتغير في السياسة الأميركية لأول مرة منذ العام ١٩٤٨.