تاريخ النشر: 27 تشرين الثاني 2025


دفاتر الأيام
امرأة تحت المطر
الكاتب: سما حسن

ليست امرأةً عادية أو حتى حالمة تنحدر من أصول أرستقراطية، فهي لا تقف بقميص نومها الحريري خلف النافذة لكي تراقب حبات المطر وهي تتساقط على زجاج نافذتها، فيما تنثر مدفأة ضخمة الدفء خلفها في جميع أنحاء الغرفة، وتنساب موسيقى هادئة في المكان، ويركض قط سمين فوق حشية سميكة من الفرو.
للأسف فمثل هذا المشهد لا تراه في بقعة بائسة اسمها غزة، لأن نساء غزة بكل أعمارهن وحين تتساقط الحبات الأولى من المطر يبدأن في خوض معركة حامية مع الطبيعة، من أجل البقاء والحفاظ على أطفالهن وما تبقى من متاعهن، وشد حبال خيامهن لكي لا تقع ويصبحن فعلياً في العراء.
تكذب نساء غزة على أنفسهن بأنهن مستورات في الخيام، والحقيقة أن تلك الخيام لا تحمي من حر ولا من برد، وتسقط مثل بقايا سيجارة على الأرض بمجرد ان تسقط أولى حبات المطر، وحيث كان الناس في غزة وفي زمن مضى ينتظرون الأيام الأولى للمطر بكل شوق ولهفة، ويستعدون بطقوس جميلة لا يمكن ان تنسى استقبالاً لموسم الخير، والذي فقد اسمه بفعل جبروت الإنسان ضد أخيه الإنسان.
إنه الشتاء الثالث الذي يواجهه أهل غزة ويقع همه الأكبر فوق كاهل النساء تحديداً، ويصل حزنهن وقلة حيلتهن إلى عنان السماء، فأصوات صراخهم تتعالى، ودعواتهن وقلة حيلتهن ترتفع ولكن لا مجيب لهن، ويتردد الصوت في الفراغ ويعود مكسوراً إلى كل قلب كسير وإلى كل روح خائبة متوثبة بين الضلوع، لأنه كان يأمل ألا يرد لصاحبته رجاء، ولكن لا حيلة حتى للصوت وهو ينطلق في أن يفعل شيئاً أو يمد يد عون داخل هذا السجن المطبق على أهله والمحكم على ضعفهم وبؤسهم، وحيث تدعو الأمهات أن يحفظ أطفالهن من أن يجرفهم سيل أو أن يسقطوا في حفرة آسنة بسبب تجمع ماء المطر الغزير، وحيث لا سبيل لتصريفه، أما أملهم في ملابس دافئة وفراش ثقيل وجدران حامية وواقية، فهذا أمل لا يعدو أن يكون سراباً امام حقيقة تلك الخيام الممتدة على مرمى البصر، وحيث أصبح الجدار مجرد ذكرى لآلاف العوائل التي ألقت بها الحرب ويد الحقد البغيضة إلى حيث أصبحوا هنا بلا أمل او حراك في ان يتغير حالهم، او حتى ان يفكر أحد بأن يمد يد العون إليهم.
تعجب لضيق حال أمهات غزة، خصوصاً وهن يحلمن بيوم افضل لأطفالهن، لكن الشتاء يعود للمرة الثالثة منذ بدأت الحرب وحالهم يتراجع للأسوأ، لأن الأمل كان معلقاً بإعلان وقف إطلاق النار لعل أن تكون حلول سريع استعداداً لفصل المطر والبرد، لكن ذلك لم يحدث لأن الناس وقعوا في خديعة انتهاء الحرب، ولا يزال القصف يطاردهم وان كان متفرقاً لكي يغمض العالم عينه عن مأساته، لكنه لا يتوقف عن حصاد الأرواح وإلحاق الخسائر في هدم ما تبقى من بيوت فوق رؤوس ساكنيها، ولكي تنضم اعداد جديدة ممن ظنوا أنهم سيأمنون من ثورة الطبيعة حين تغضب، حتى لو في بيت متهالك او بيت متصدع، فالمهم أن هناك جدراناً أسمنتية أربعةً وسقفاً، وهذا افضل حالاً من وجهة نظر الجميع من قماش الخيمة الذي مهما بدا قوياً وغليظاً لكنه يتهالك ويسقط مع أول هبوب لرياح الخريف، ومع تساقط المطر لو كان خفيفاً قبل أن يتحول إلى زخات عميقة، وتضرب المنخفضات الجوية ساحل البحر الحزين والذي أصبح ملاذاً أخيراً للبائسين.
هنا في غزة تبكي الأمهات ولا يمسح دمعهن أحد، ولا يغسل وجوههن إلا ماء المطر وهن يركضن تحت زخاته، محاولِاتٍ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أطفال رضع أو متاع قليل أو طحين قد تحول إلى عجين، لكنه لا يصلح لأن يصبح خبزاً شهياً، فقد أجادت الوصف الموجع والمؤلم جارتي وهي تبكي عبر الهاتف لكي تقول لي: تخيّلي: لقد وضعت كيس الطحين الذي لا يتجاوز وزنه بضعة كيلو جرامات وهو كل ما أملك من زاد لأطفالي الستة، وضعته فوق قاعدة خشبية مرتفعة قليلاً عن الأرض لكي أحميه من تسلل ماء المطر إلى الخيمة، ولكن ماء المطر كان جارفاً كالسيل ووصل إليه، لقد تحول إلى عجين في لحظة ولكنه عجين سوف أُلقي به في القمامة لأنه غير صالح لكي يصبح خبزاً، بعد أن اختلط بالقش والرمل والحصى......