يبدو لي أن التوقّف في المحطّة الأوكرانية، ولو في مقال واحد فقط، بات من الأمور الملحّة لأسباب عدّة، لعلّ من أهمّها أن هذه المحطّة ستؤثّر بصورة كبيرة على القراءات اللاحقة لموازين الصراع الدولي، وستلعب دوراً يبدو أنه سيكون محورياً في تحديد مآلات هذا الصراع لعقود قادمة.
لكن أهمية المحطّة الأوكرانية بالنسبة للصراع في منطقة الإقليم هي في الواقع أكبر مما تبدو عليه في مجمل الخارطة الدولية.
لم أفهم، ولم أتفهّم هذا الصمت، الذي انطوى عليه تصويت روسيا، وكذلك الصين على قرار مجلس الأمن رقم 2803 حول قطاع غزّة.
قد يعتقد البعض أن مشروع القرار الروسي قد أتى في أجواء من «المناكفة» السياسية الروسية مع إدارة دونالد ترامب، وقد يعتقد هذا البعض أن «سحب» مشروع القرار الروسي قد جاء ليثبت صحّة التقدير حول «المناكفة» السياسية الروسية، لكن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا التقدير، ولولا الضغط [العربي والإسلامي] غير المسبوق على روسيا لما تمّ سحب القرار مطلقاً، ولولا الابتزاز الذي مارسه العالمان العربي والإسلامي ضد مشروع القرار الروسي «بتحميل» روسيا مسؤولية العودة إلى الحرب على القطاع، لما اضطرّت روسيا والصين إلى التصويت بالامتناع، وعدم استخدام «حق النقض» ضد مشروع القرار الأميركي، والذي قيل بأنه قد تم تعديله لعدة مرات «بضغط» عربي وإسلامي للوصول إلى صيغته النهائية التي أقرّها مجلس الأمن.
وقعت وسائل الإعلام العربية، ووقع معظم الكتّاب والمراقبين في فخّ هذه الأكذوبة التي انطلت على الغالبية الساحقة منهم بأن إسقاط القرار كان سيؤدي لاستئناف الحرب الإبادية على القطاع، لأن أميركا لم يكن أمامها في الواقع سوى أن تعدّل على قرارها، وليس الذهاب إلى استئناف الحرب التي «تتلذّذ» دولة الاحتلال باستمرارها على القطاع، وأميركا كانت تحتاج إلى وقف هذه الحرب العدوانية، بالشكل الهزيل الذي توقفت عليه قبل حاجة أي طرف آخر، وكانت العودة إلى وتيرة حرب الإبادة أخطر على الواقع السياسي الأميركي من أي خطر على أي طرف من أطراف الصراع، وكان «الحلف» الذي حاولت أميركا أن تبنيه من حول «القرار» سينهار بصورة فوضوية، وكانت ستحتاج إلى إجراءات دراماتيكية واستثنائية للملمته من جديد.
تعتقد كل من القيادة الروسية والصينية ــ كما أرى ــ أن القرار الوارد في المشروع الروسي، أو تعديل القرار الأميركي، ليس إلى الحدود التي ارتضتها البلدان العربية والإسلامية، وإنما إلى الحدود التي أرادها كلا البلدين، كان من شأنه أن يقطع الطريق نهائياً على أيّ تراجع ممكن من قبل أميركا من مسار «موثوق» نحو إقامة الدولة الفلسطينية، في حين أن صيغة القرار الحالية ما زالت توفّر لأميركا مثل هذه الإمكانية على التراجع.
نعود الآن إلى الحرب الأوكرانية لنرى ما علاقتها بالتطوّرات القائمة في الإقليم، وبالتطوّرات اللاحقة فيه.
لنترك جانباً تفاصيل النقاط التي طرحها ترامب لتسوية الأوضاع، ولإنهاء الحرب في أوكرانيا، ولنترك جانباً بالمقابل الشروط الروسية للذهاب إلى مثل هذه التسوية، لأن الأمر كلّه ما زال يخضع لمساومات واقتراحات بديلة أو معدّلة، وسيتم عند درجة معيّنة الذهاب إلى نوع من الحلول الوسط في كل جانب جوهري من جوانب هذا الصراع.
الذي بات مؤكداً، ولم يعد في موضع المساومات والاقتراحات المضادة، أو هذه الصيغة أو تلك، والبدائل عنها هو أن «الغرب» كله، ومن دون أي استثناء يذكر قد أصبح «يجنح» إلى السلم، وإلى إنهاء الحرب.
ترامب نفسه هو الأكثر قناعة بمثل هذا التوجّه، وكل من كان يدّعي بأن الحرب لن تنتهي قبل هزيمة روسيا من أصحاب الرؤوس الحامية في «الغرب» كله، أصبح يتحدث اليوم بلغة لا تقبل الجدل أو التأويل بأن الحرب قد استنفدت «أغراضها»، وأنه لم يعد من طائل من استمرارها، وأن الذهاب إلى حلول وسط، مهما كانت «قاسية» هو الممكن الوحيد والمتاح حالياً.
وقد سلّم «الغرب» بثلاث حقائق كبيرة في نتائج هذه الحرب:
الأولى، انتهت وإلى الأبد مسألة جزيرة القرم، وأصبحت جزءاً لا يتجزّاً من ولاية الدولة الروسية، ومُنع الرئيس الأوكراني من مجرّد الحديث عنها في أيّ مفاوضات قادمة حول التسوية في بلده.
الثانية، المقاطعات الخمس، والتي تقع تحت السيطرة المباشرة، أو الأمنية للقوات الروسية لم تعد مسألة تقرير مصيرها مطروحة بالوسائل العسكرية، وهي تشكّل حوالي 20% من «الأراضي» الأوكرانية، والحلّ الوحيد الذي بات «الغرب» يراه في تقرير مصيرها هو «القانون الدولي» لجهة حق سكان هذه المقاطعات بتقرير مصيرهم بأنفسهم بواسطة أحد صيغ أو أشكال التعبير عن هذا الحق، وهو الاستفتاء. ولمن لا يعرف واقع مواقف سكّان هذه المقاطعات فإن المسألة منتهية، وهؤلاء السكّان أكثر «عداوة» لنظام كييف من السكّان الروس أنفسهم في موسكو، وهم يعتبرون أنفسهم روساً أباً عن جد، ويرون أنفسهم على نفس درجة المواطن الروسي في أي مقاطعة روسية.
ليس هذا فحسب، فقد جرى مثل هذا الاستفتاء في ظروف سابقة على الوقائع القائمة اليوم، واعترفت الأمم المتحدة أن الاستفتاء لم تشُبه أي شائبة قانونية، وأنه قد جاء لصالح الاندماج بالدولة الأمّ، وهي روسيا بمحض إرادتهم الحرّة والكاملة.
كان ذلك قبل أن تحقّق القوات الروسية ما حقّقته بعد ذلك، وبعد أن انهارت عملياً القوات الأوكرانية، وبعد أن بدأت المساعدات العسكرية «الغربية» لنظام زيلنسكي بالتراجع الكبير، وبعد أن عجز «الغرب» عن كلّه النيل من مهابة الدولة الروسية، ومن اقتصادها، ومن بأس قواتها المسلّحة. ولذلك كلّه فهذه المسألة تعتبر في عداد المنتهية.
والثالثة، هي مستقبل التسلّح الأوكراني، ومستقبل حرّية أوكرانيا في الدخول إلى «حلف الناتو». أظنّ أن هذه المسألة بالذات هي الوحيدة التي يمكن أن تخضع للمساومات الجزئية. مسألة «الناتو» هي خطّ روسي أحمر، والأسلحة النووية الأوكرانية هي خطّ أحمر آخر، والتسلّح ليس مفتوحاً، وإنّما هناك خضوع للرقابة الروسية والدولية على حدّ سواء.
هنا توجد بعض الهوامش في نوعية الأسلحة للقوات الأوكرانية، وقد يسمح لها بامتلاك بعض الأسلحة المتطوّرة، لكنها ستكون حتماً تحت سقف أسلحة الدمار الشامل، وبشروط محدّدة في بعض معدّاتها.
باختصار شديد هذه هي النتائج التي انتهت إليها هذه الحرب، وسواءً طالت أو استطالت المفاوضات بشأن ترسيم انتهائها فإن هذه هي الخلاصة الحقيقية لها.
روسيا تكون قد استعادت جزيرة القرم، وأعادت المناطق الروسية الخالصة لسيادة الدولة الروسية، ويكون نظام كييف قد خسر الحرب بخسارة أكثر من 20% من «أراضيه»، ويكون نظامه مكبّلاً بالقيود التي ترضى بها الدولة الروسية، بعد أن دفع ثمناً بشرياً هائلاً، وبعد أن تحوّلت دولة أوكرانيا إلى دولة فاشلة ستظلّ تئنّ تحت ديون الحرب لعقود قادمة.
«الغرب» ورّط أوكرانيا، ودمّرها لأهدافه الخاصة، وتخلّى عنها في «ليلة ما فيها قمر»، وانتهت البلد إلى كارثة حقيقية، بل وأصبحت الآن دولة تحت عشرات علامات الاستفهام، لأن بولندا، وهنغاريا، وربما رومانيا، أيضاً، كلّهم يتحيّنون الفرص لإعادة استقطاع ما يعتقدون أنها مقاطعات وأراضٍ «كانت» تتبع لهذه البلدان.
المستفيد الأوّل من هذه النهاية المأساوية على الشعب الأوكراني هو ترامب، لأنه ببساطة يفهم أن روسيا قد ربحت الحرب، وأنه لا يريد أن يزاحم روسيا في أوروبا، وإنما يريد أوّلاً وقبل كل شيء أن «يستحوذ» على كامل إقليم الشرق الأوسط، وهو يراهن أن تكون نهاية الحرب في أوكرانيا «فرصة» لفكّ التحالف بين روسيا والصين، وربما، أيضاً، المراهنة على فكّ التحالف بين روسيا وإيران في محاولة لإعادة تموضع الأقطاب الدولية.
ما لم يفهمه العرب والمسلمون حتى الآن، أن أميركا لم تعد قادرة على منافسة روسيا عسكرياً، ولم تعد قادرة على منافسة الصين اقتصادياً، وقد تتأخّر حتى عن منافستها عسكرياً مع نهاية هذا العقد، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستحتاج إلى عقدين كاملين لإعادة التوازن لدورها العسكري والاقتصادي إذا سارت الأمور حسب الخطط التي تفكّر بها الدولة العميقة في أميركا، وكان بالإمكان الاستناد إلى كل هذه الوقائع لتموضع عربي وإسلامي في مناطق وسطية أو شبه وسطية بدلاً من التموضع، وحتى التقوقع في وسط الخيبات الأميركية، وليس مفهوماً أبداً أن العرب والمسلمين هم الذين ما زالوا يرون في أميركا القوة التي لا تُردّ، أو القوة التي لا يجوز أن يُقال لها كلمة «لا»، ولو لمرّة واحدة، ولو على سبيل الاختبار؟!