تاريخ النشر: 26 تشرين الثاني 2025


آراء
الرائدة سحاب شاهين وقوة الفكر الإنساني
الكاتب: فيحاء عبد الهادي

حين يسود الظلام العالم، ويستفحل الشرّ، ويزوّر التاريخ، ويمعن الظالم في الظلم، والمستبدّ في الاستبداد، والمجرم في الإجرام، بمباركة من قوى الشرّ، وحين يلوِّن التعصّب والعنصرية والتمييز وجه العالم، وتفقد الكلمات معانيها، والمبادئ روحها؛ يصبح من الأهمية بمكان أن نستلهم التجارب الثورية التحرّرية التي خاضت نضالًا ضد الاستعمار، الذي يتجسّد بأشكال متعددة من العنصرية والتعصب والتمييز، وأن نستلهم مسيرة حياة مناضلات ومناضلين؛ ناضلوا، بثقة، ورباطة جأش، ضدّ الاستعمار والامبريالية، عبر العالم؛ كي يفتحوا أبوابًا ونوافذ للأمل، وكي يحوّلوا الظلام إلى نور؛ حيث تعزيز حقوق الإنسان، وتفكيك هياكل العنصرية، وترسيخ مفهوم الاختلاف، والتعدّدية الثقافية، والمساواة، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
*****
من بين المناضلات ضد الاحتلال الصهيوني الاستعماري، منذ الخمسينيات؛ الذين نذروا حياتهم لنشر الفكر الإنساني، ولمحاربة أشكال الاستغلال والاضطهاد والتمييز كافة، والدفاع عن حق شعبهم في الحرية والاستقلال وتقرير المصير؛ ممن يجدر استلهام سيرتهم الكفاحية، يبرز اسم التربوية التقدمية الفلسطينية: سحاب حسني ذيب شاهين، التي ولدت في نابلس، العام 1936، ورحلت يوم الثاني من تشرين الثاني، العام 2023.
*****
درست ابنة نابلس في مدارسها؛ ولم تستطع استكمال دراستها الجامعية، بسبب منعها من السفر لنشاطها السياسي؛ فالتحقت بمعهد دار المعلمات في رام الله، وتخرّجت منه العام 1954 – 1955.
تفتّح وعيها على الفكر التقدمي، وكان لعمّها المناضل الشيوعي «رشدي شاهين»؛ الفضل الأكبر في تنمية شخصيتها، وتوجيهها للفكر الإنساني؛ الأمر الذي حفزها للقراءة، والمعرفة، والالتحاق باتحاد الطلاب، ثم باتحاد الشباب، قبل انضمامها إلى صفوف الحزب الشيوعي، الذي اهتم بالتنظيم النقابي، وبتنظيم الطبقة العاملة والمزارعين والفلاحين، وأعطى اهتمامًا خاصاً لتنظيم النساء، الأمر الذي ينسجم مع النظام الأساسي للحزب، الذي ينصّ على المساواة بين الرجل والمرأة.
تحدثت الرائدة عن دور نساء الحزب في تنظيم وقيادة التظاهرات السياسية، وفي توزيع جريدة الحزب «المقاومة الشعبية»، سرًا - رغم وعيهن لعاقبة هذا العمل -، وفي تهريب رفاق الحزب المطلوبين، وفي تأسيس أول رابطة نسوية تقدمية في فلسطين.   
تحدثت بفخر عن دورها كوسيلة نقل المطبوعات إلى بيت دجن، حيث تقيم بعض قيادات الحزب، وذكرت مشاركتها العام 1950، مع سبعين امرأة، أثناء دراستها في مدرسة العائشية، في أول تظاهرة نظّمها الحزب الشيوعي - قبل الإعلان عن تشكيله - احتجاجًا على ضمّ الضفة الغربية إلى الأردن.
لبست الشابة ملاية زمّ، وهي ملابس جدّة أمها، ووضعت المنديل الأسود على وجهها، ومشت مع النساء في التظاهرة الحاشدة، بعد ان تجمّعن في الجامع الكبير في المدينة، ورفع الحزب فيها شعارات، ترفض الضمّ وتنادي بالاستقلال.
كما تحدثت عن مشاركتها في تنظيم تظاهرات عارمة ضد حلف بغداد، والعدوان الثلاثي، ومبدأ أيزينهاور، وعن دورها في إخفاء وتهريب عدد كبير من الرفاق بعد إعلان الأحكام العرفية، إثر حلّ حكومة «سليمان النابلسي» العام 1957، كما تذكر مشاركتها في تأسيس «رابطة الدفاع عن حقوق المرأة/القدس – أريحا»، العام 1951؛ تلك المؤسسة النسوية التقدمية، التي سجلت عضوًا  في «الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي»، والتي عملت على صعيدَي السياسة وحقوق المرأة، على يد نساء تقدميات، انتظمن في صفوف الحزب الشيوعي الأردني. لم تحصل الجمعية على ترخيص؛ ومع ذلك استمرّت في العمل حتى العام 1975.
*****
لعبت الرائدة منذ تخرّجها من دار المعلمات، ومباشرتها التدريس؛ دورًا تربويًا وسياسيًا ونسويًا متميزاً. قامت بتدريس التربية الوطنية، من خلال منهج الاجتماعيات، من منطلق نقدي، يعكس فهمها لحركة التاريخ، ما يوسّع مدارك الطالبات، ويوجههن لأهمية الحوار والمناقشة.
أسَّست مع المعلمة النصراوية «رؤوفة عون الله» أول فرقة مرشدات وزهرات في مدينة نابلس، وأصبحت مفوّضة للمرشدات، وفي العام 1963 عينت أول مشرفة للتربية الرياضية، وانتقلت بعد تدريسها ثماني سنوات إلى مكتب التربية والتعليم في محافظة نابلس، وقامت بتدريب مرشدات قائدات، وأوكل إليها وضع القانون الأساسي للمرشدات، العام 1961، «حيث فصلت جمعية المرشدات الأردنية، عن جمعية الكشافة الأردنية، وانتخبت أمينة للسرّ، ثم أمينة للصندوق لجمعية المرشدات».
قامت بتنظيم دورات لتدريب قائدات المرشدات على الإسعافات الأولية؛ مما أفاد حين وقوع أحداث السموع، العام 1966، حيث  فتحت المدارس مراكز للإسعافات، أثناء المظاهرات، اللي اجتاحت الضفة الغربية، وفي العام 1967، استطاعت قائدات المرشدات أن يقدّمن الإسعافات الأولية أول أيام الاحتلال، للجرحى من الجيش الأردني.
آمنت بقدرة النساء الفلسطينيات على تحقيق قوانين تنصفهن، ولذا نادت بأهمية البناء على تراكم نضالهن الكمّي؛ لإحداث تحول نوعي، يتجسد في قوانين معدّلة لمصلحتهن، بداية بقانون أحوال شخصية عصري ديموقراطي، يتناسب مع التطور المجتمعي.
*****
تدرّجت المناضلة في الحزب في القضية التنظيمية، من الخلية للجنة المنطقة للجنة مركزية، وبالتالي كانت شريكًا في اتخاذ القرار. مثّلت الحزب في «لجنة التوجيه الوطني»، في الضفة والقطاع، بعد إبعاد القيادة الأولى، في العام 67- 68 إلى الأردن، وعملت ضمن أنوية الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، بعد حضورها المؤتمر التأسيسي للاتحاد في القدس العام 1965، وأثناء عملها في التربية؛ شاركت في تأسيس اتحاد للمعلمين سرّا، في الضفة الغربية.
وبسبب تكثيف نشاطها السياسي والنقابي بعد الاحتلال، العام 1967؛ اعتقلت عدة مرات، وأبعدت عن مدينتها إلى عمّان، العام 1969. ولم تعد إلى نابلس سوى بعد خمسة وعشرين عامًا، مارست خلالها نشاطها في الأردن.
*****
الرائدة الغالية سحاب شاهين،
عبّرتِ عن اعتزازك بدورك كمعلمة، استطاعت أن تؤثر على فكر طالباتها، وأن تكون قوة مثال لهن.
وأعبِّر بدوري - كطالبة تتلمذت على يديكِ - عن اعتزازي بدورك التربوي والفكري والسياسي، الذي أثّر على جيل بأكمله.
لن أنسى الكتاب الأول، الذي أهديتِني إياه، والذي فتح الباب أمامي للاطّلاع على الفكر الإنساني، وعنوانه «ما العمل؟».
ما زالت كلماتك ترنّ في أذني: الفكر الإنساني يعلّمنا أنه بدون دراسة الواقع لا يمكن أن نستطيع تعديله أو تغييره.
غبتِ معلمتي لكن حضورك ما زال متوهجًا في الذاكرة والقلب، وفي وجدان الشعب الفلسطيني الوفيّ، وأحرار العالم.
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com