بعد عدة عقود من استقرار الهيمنة الأميركية العالمية، يبرز الصراع بين القوى العظمى إلى الواجهة، وإن تشكل ونما عبر السنوات الأخيرة الماضية.
وشهد العقد الماضي تحولات استراتيجية دولية مهمة، فما بين تراجع دور المؤسسات الدولية وانحدار الموقع الجيوسياسي الأميركي وتصاعد النزاعات الإقليمية يبدو التخلخل في نظام القوى القائم واضحاً، خصوصاً في ظل عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
نعيش اليوم في عصر من عدم اليقين وحالة اضطراب في النظام الدولي الحالي، خصوصاً بعد صعود ترامب لسدة الحكم في ولايته الحالية.
يعتبر الواقعيون، الذين هيمنت مبادئهم على سياسة الولايات المتحدة الخارجية بشكل واضح خلال فترة الحرب الباردة، أن تراجع مكانة الولايات المتحدة اليوم، والتي ضبطت في الماضي تفاعلات النظام الدولي، قد يؤدي لنتائج معقدة.
ويعتقد الليبراليون، الذين شكلت مبادئهم الأساس لتوجهات السياسة الخارجية الأميركية بعد الحرب الباردة، أن نظام الهيمنة الليبرالي، الذي أرست الولايات المتحدة العمل به في ذلك الوقت، يشهد تراجعاً واضحاً.
ويرى البنيويون، الذين اكتفت الولايات المتحدة باستخدام أفكارهم في إطار نظري، أن تغييب المعايير والقيم الدولية يعرض النظام العالمي لحالة من غياب التنظيم.
تركز سياسة ترامب الخارجية الحالية على تعميق حالة من عدم اليقين الدولي، في ظل تجاهلها لدور المؤسسات الدولية والتعاون والعمل الجماعي، وتحييد المعايير والقيم الدولية، التي أرساها المجتمع الدولي وطورها على مدار العقود الماضية. ومن الصعب فهم هذه التحولات الجديدة في السياسة الخارجية الأميركية دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة شخصية ترامب وميوله وتوجهاته، لما للرئيس من دور مهم في رسم تلك السياسة وتحديد منفذيها في الولايات المتحدة.
ويبدو أن ترامب يخلط بين مصالح بلاده القومية ومصلحته الشخصية كرجل أعمال في الأساس، ومشاعره المعارضة لوجود المهاجرين في بلاده. وضمن ذلك الإطار يمكن تفسير العديد من التناقضات في سياسته، والتي تبدو بعيدة عن المنطق، إن تم تحليلها وفق المعطيات النظرية.
ورغم أن ترامب بدأ عهده الرئاسي بشعار «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، تجاهل حلفاءه الغربيين، وقلص شراكته معهم، والتي بنيت وفق النموذج الليبرالي، القائم على التعاون والتكامل والعمل الجماعي.
ويعتبر هؤلاء العامود الفقرى الذي دعم وجود واستمرار الولايات المتحدة كقطب منفرد، في ظل شراكة عميقة وتحالف قوى يقوم على التشابه الأيديولوجي وتقاطع المصالح.
وفي حين صعد ترامب منذ وصوله للسلطة قبل أشهر من نبرة المنافسة والتحدي للصين، تجاهل وتغافل عن تعميق استراتيجية التحالف مع الشركاء لمواجهة نده الصيني، كما قلص الانتشار العسكري خارج بلاده، في أوروبا والشرق الأوسط، وركز على مناطق في آسيا والمحيط الهادي وأميركا اللاتينية.
وبينما فرض ترامب تعريفات جمركية كبيرة على أكثر من ١٠٠ دولة صديقة وغير صديقة، في سبيل إعادة التصنيع لقلب بلاده، صعد سياساته ضد المهاجرين، والذين يشكلون العمالة المركزية في الولايات المتحدة، واللازمة للتصنيع.
ويميل ترامب للعودة للسياسات العقابية كفرض التعريفات الجمركية والعقوبات الاقتصادية لانتزاع تنازلات من الأحلاف والأعداء على حد سواء، ما أربك حلفاءه. ويحمل ترامب عداء كبيراً للمؤسسات المتعددة الأطراف التي تشكل شبكة أمان في مواجهة الفوضى الدولية.
يشهد العصر الحالي تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة. فقد بدأت بتحميل شركائها الأوروبيين وحلفائها الآسيويين الأعباء المالية والأمنية والعسكرية، متخلية عن ذلك الدور، الذي منحها مكانة سياسية لا منازع عليها.
يتشارك حلفاء واشنطن كالهند واليابان ودول أوروبية مع الصين تجارياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، ويشترون النفط والغاز من روسيا.
ورغم تبنى ترامب مع بداية عهده الرئاسي سياسة عدائية مع الصين، وحرباً تجارية، إلا أنه تراجع بعد ذلك تحت ضغط الصين، وباتت سياسته مرنة، رغم اشتداد حده التنافس بين البلدين.
وتتصاعد القدرات العسكرية لدول مثل تركيا والهند وكوريا الجنوبية، بينما تتوزع القوة الاقتصادية والتكنولوجية بين أقطاب متعددة جديدة في آسيا وأوروبا والقارة اللاتينية.
وتفقد الولايات المتحدة حلفاءها. فالهند عضو فاعل في مجموعة بريكس مع روسيا والصين، وهولندا تصدر للصين تقنيات صناعة الرقائق الدقيقة، على غير رضا الولايات المتحدة.
يتجه العالم وفق تلك المعطيات لعالم تعددي غير متوازن، تتنافس في إطاره الولايات المتحدة والصين كقوتين عظمتين، إلى جانب مجموعة واسعة من القوى الأضعف كروسيا والهند وألمانيا، ذات فعالية تؤثر على ديناميكيات النظام الدولي.
وفي تطورات الهدنة الأخيرة في غزة، ووفق سياسة ترامب الخارجية، بدا جلياً مدى اهتمام ترامب ورغبته في ترسيخ قواعد الشراكة مع دول الخليج العربي الغنية، حيث تركز سياسته معها على ترتيب الصفقات. فبعد محاولة إسرائيل اغتيال قيادات من حركة حماس في قطر، فرض ترامب على نتنياهو الاعتذار لقطر، في حادث غير مسبوق، كما فرض هدنة في غزة، معطلاً تنفيذ مخططات إسرائيل لاحتلال قطاع غزة وطرد سكانه، والتي باتت مهمة أصعب الآن.
لقد كشفت الحروب التي خاضتها إسرائيل خلال العامين الماضيين مدى الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة، حيث كشفت تلك الحروب كيف باتت تشكل إسرائيل عبئا حقيقياً على الولايات المتحدة.
ويؤيد معظم الديمقراطيين في الولايات المتحدة اليوم إنصاف الفلسطينيين في تطور غير مسبوق، بل باتت المساعدات الأميركية لإسرائيل مكان تساؤل بين تيار منهم. ورغم أن الجمهوريين يدعمون إسرائيل تقليدياً، إلا أن التيارات القومية فيها، والتي تؤمن بشعار «أميركا أولاً» باتت تتساءل عن حدود ذلك الدعم الأميركي لإسرائيل، خصوصاً في ظل تعارضه مع مصالح بلادهم.
وكشفت تفاصيل حرب إسرائيل على غزة، وموقف حكومتها من الضفة الغربية، وسياساتها في لبنان وسورية والعراق واليمن وقطر النوايا الإسرائيلية تجاه الدول العربية والمنطقة بوضوح، وهو ما يحبط تلقائياً المخططات الإسرائيلية والأميركية السابقة حول خلق شرق أوسط جديد، يقوم على مركزية إسرائيل وتفوقها على دول المنطقة، والتي يفترض حسب ذلك المشروع أن تدور تلك الدول بفلكها.
ورغم نجاح إسرائيل بتحقيق أهداف تكتيكية في حروبها الأخيرة، كالاغتيالات والقصف والتدمير بسلاحها الجوي والصاروخي، إلا أنها لم تحقق أهدافاً استراتيجية، فلم تقضِ على حزب الله أو حركة حماس ولم تنهِ قدرات إيران النووية كما لم تغير من الواقع القائم على الأرض في أي من تلك البلدان، وهو ما تحاول انتزاعه في مفاوضات ما بعد توقف الحروب المباشرة.
قد تساهم توجهات الإدارة الأميركية الحالية تجاه دول المنطقة، خصوصاً تلك الموجهة لتحقيق مصالح اقتصادية وشراكات واسعة لترسيخ حالة من الهدوء، وتخفيض التكاليف المساهمة في حروب لا طائل للولايات المتحدة منها، لاستبعاد تلك المخططات الإسرائيلية نهائياً وتعطيل فاعلية تنفيذها في الساحة الإقليمية.
بل قد يكون ذلك مدخلاً لعصر جديد تتحقق فيه العدالة والحرية لفلسطين، والاستقرار لدول المنطقة، في إطار منظومة دولة تتجه يوماً بعد يوم لعزل إسرائيل ومحاسبتها.
يأتي ذلك في ظل بروز تناقض واضح بين نوعين من الدول تعيش في هذه البقعة الإقليمية الاستراتيجية، فما بين إسرائيل التي تقود حالة من عدم الاستقرار والعنف والتعدي على دول المنطقة، وتجاهل القانون الدولي وقرارات الشرعية، وبين مصر أو المملكة السعودية وغيرها من دول المنطقة، التي تتطلع لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار فيها.
وبينما صدم العالم من مشاهد القتل والتدمير في غزة، حبست مصر العريقة أنفاس العالم قبل أيام عندما افتتحت المتحف المصري الكبير، الذي جسد حضارة عمرها آلاف السنين، وبث تاريخاً وثقافة تفخر بهما البشرية جمعاء، ويفخر العرب اليوم بصعود دول الخليج العربي اقتصادياً بعد أن بدأت تأخذ مكاناً منافساً بين الأقطاب الدولية القوية.
فهل يمكن للعرب أن يشكلوا ضمن المعطيات المتبلورة شرق أوسط جديداً بنكهة عربية قومية غابت طويلاً؟.