لو قمنا باستعراض سريع لأهم وأبرز ما أطلقه بنيامين نتنياهو من شعارات وقرارات ومواقف خلال عامين مضيا، لتبين لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن معظم تلك الشعارات لم يتحقق منها شيء ذو بال، ولظهر أمامنا «زعيم» ينتمي لعصور مضت ويحرض شعبه على الحرب والعداء والكراهية لكل ما هو خارج حدود بلده، ومن إعلانه تغيير وجه الشرق الأوسط بقوته العسكرية، إلى سحق ما يسميه أذرع إيران في المنطقة، إلى تحطيم برنامج إيران النووي وقوتها الصاروخية، وإلى تفاصيل أهدافه الخمسة من مواصلة حربه لمدة عامين، إلى أن أجبر على وقفها، وإن لم يكن بشكل نهائي، على قطاع غزة، لتبين لنا، أنه وآلته العسكرية وكل ما حصل عليه من تفويض أميركي، لم يحقق أهدافه بنسبة مئة بالمئة على الأقل، فهو فشل في إطلاق سراح المحتجزين، إلا عبر صفقة التبادل، وفشل في تحقيق ما تشبث به من هدف التهجير وضم القطاع، مستغلا ما كان أعلنه الرئيس الأميركي في شباط الماضي، وفشل في الرد على اعترافات دول الغرب بدولة فلسطين، بإعلان ضم كلي أو جزئي للضفة الفلسطينية.
كذلك فشل في إسقاط حكم حماس لغزة، وفي نزع سلاحها تماما، حتى اللحظة على الأقل، لذلك لم يبق أمامه إلا الحديث ليل نهار عن إصراره على نزع ذلك السلاح، مستندا إلى التوافق بينه وبين ترامب في هذه النقطة، كذلك ما زال يضع شروطا ويعلن عن مواقف، أقل ما يقال فيها، إن الرجل ما زال يفكر وكأن الزمان ثابت لا يتغير، وهو قد اشترط عدم مشاركة كل من تركيا وقطر، ولا بأي شكل في ترتيبات ما بعد الحرب، لا فيما يخص تشكل القوة الدولية التي ستشارك في إدارة القطاع مع إدارة مدنية، ما زالت تفاصيل تلك القوة وتلك الإدارة غير واضحة، ومدار جدل بين العديد من الدول، ونتنياهو يطلق العنان لما يريده وما يحلم به، استنادا إلى ما كان في الماضي، من سيطرة للوبي اليهودي على نظام الحكم الأميركي بشقيه، البيت الأبيض والكونغرس، وإلى أن إسرائيل هي الطرف الوحيد المؤثر في قرارات ومواقف الرئيس الأميركي، وحيث إن ترامب وإدارته يعتبران، أكثر المنحازين لإسرائيل عبر تاريخ إدارة البيت الأبيض، فإن ذلك يعني أنه يمكن لنتنياهو أن «يتشرط» كما يريد، وأن لا يطالب بما يرغب به وحسب، بل أن يأمر فيطاع.
الآن وبعد وقف الحرب ما زال نتنياهو يواصل حديث الحرب، ومعه رجلان مستجدان في هذا الفصل المريع من إدارة السياسة العسكرية الإسرائيلية، هما إسرائيل كاتس وزير الحرب، وإيال زامير رئيس الأركان، وهما كما هو معروف، ورث هذان الرجلان كلاً من يوآف غالانت وزير الحرب السابق، وهيرتسي هاليفي رئيس الأركان السابق، اللذين كانا قد اختلفا مع نتنياهو في تفاصيل إدارة حرب الإبادة الإسرائيلية، خاصة لجهة مواصلتها دونما أهداف عسكرية محددة، وذلك لإدراكهما أن نتنياهو كان يواصل الحرب، منذ العام الثاني لها، بدافع الحفاظ على ائتلافه الحاكم، واستجابة لابتزاز وزيري التطرف الفاشي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ومن الطبيعي، أن لا يظهر كاتس وزامير ولاء تاما لنتنياهو وحسب، بل وأن يظهرا ما يبرر توليهما أهم منصبين في الجيش، لذلك ما زال هؤلاء يواصلون اختراع الأهداف الأمنية، التي مجرد الحديث عنها ينفي ادعاءهم بأنهم حققوا النصر التام، على حماس في غزة وعلى محور إيران في عموم المنطقة.
وحتى لا ندخل في التفاصيل الصغيرة، وحتى لا نكرر ما سبق لنا وقلناه في مقالات سابقة، يواصل نتنياهو، شغفه بالحضور الإعلامي، وكأن الحرب باتت تخاض عبر «السوشيال ميديا» كما يفعل دونالد ترامب، فلا يكاد يمر يوم واحد، دون أن يدلي نتنياهو بتصريح أو يعلن موقفا، يؤكد فيه ما يوحي بأن زمام الأمور كلها بيده، وبما يوحي بأن الرجل ما زال يعتقد بأنه قد حقق ما كان يحلم به، وهو في الحقيقة تورط، بسبب خضوعه لبن غفير وسموتريتش، في الصعود إلى قمة الشجرة، وبدلا من الإقرار بأن المنطق يفرض النزول عنها، ما زال يقول: «عنزة ولو طارت»، فها هو يتابع تفاصيل الملف في الجزء الخاص منه بغزة، لأنه يعلم أن الصورة التي ستنتهي لها غزة، ستكشف تماما حقيقة النتيجة التي انتهت لها الحرب، وذلك لأن أحد جوانب الحقيقة كانت الخسائر الباهظة على الجانبين، من ضحايا ودمار مريع على الجانب الفلسطيني، وخسائر بشرية ما واقتصادية وغير مباشرة، وعزلة دولة مريعة على الجانب الإسرائيلي.
ومن المهم بالطبع لأحد الطرفين أن يؤكد أن الترتيبات التالية، تجري وفق هواه، ليدعي النصر، وإن كان ثمنه باهظا، مع أننا نميل إلى القول إن كلا طرفي الحرب خاسران، وإذا كانت حماس خسرت إدارة غزة بالشكل المباشر والتام، وخسرت آلاف الضحايا من مقاتليها وقادتها، فإن أهم ما تبقى لديها هو قوتها العسكرية التي ما زالت باقية في غزة، وتتفوق على كل «الميليشيا» التي ظهرت بدعم إسرائيلي، وتمنع الدول من الموافقة على المشاركة في إرسال قواتها بما في ذلك أميركا نفسها، خشية الاصطدام بهذه القوة، تلك القوة التي ستتحول إلى مقاومة للاحتلال الإسرائيلي فيما وراء الخط الأصفر، كما حدث مع إسرائيل في جنوب لبنان بعد العام 1982، حين ظهر حزب الله كمقاومة للاحتلال الإسرائيلي ولدولة سعد حداد/أنطوان لحد العميلة تاليا، بل وأن تلك القوة حتى في حال تسليم إدارة غزة للسلطة الفلسطينية، ستكون هي الحاكم من وراء الكواليس، كما هو حال حزب الله في لبنان وحال الميليشيات الموالية لإيران في العراق.
وحماس بكل ما لديها من أوراق ولو كان الثمن هو الإعمار، تسعى للاحتفاظ بهذه القوة، فيما تحاول إسرائيل بكل ما لديها من توافق مع إدارة ترامب نزع هذه الورقة من بين يدي حماس، ورغم أن ذلك كان مثيرا لتوجس دول الجوار، مصر والأردن وفلسطين بالطبع، من أن يؤدي نزع سلاح حماس إلى تعبيد الطريق أمام التهجير، إلا أن إصرار ترامب على منع تهجير سكان غزة ومنع ضم الضفة الفلسطينية، يبدد هذا التوجس تدريجيا، لكن يبقى شيء من التعقيد، فيما هو بديل الإنهاء التام لحكم حماس السياسي ونزع السلاح التام الذي يعني اختفاء الحركة تماما، وخروجها من المشهد، هو ما يبقي على الخيط الواهي من التوافق الذي بقي مدة 17 سنة بين نتنياهو وحماس، نقصد أن حماس بموافقتها على عودة السلطة، وعلى إدارة فلسطينية متوافق عليها لغزة، تثير جنون نتنياهو، الذي بنى كل استراتيجيته خلال ثلاثين عاما مضت، على قطع الطريق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عبر دعم وتشجيع الانقسام الفلسطيني الداخلي.
أولا يصر نتنياهو على القول في الإعلام إنه هو من سيحدد القوات الدولية التي ستدخل غزة، وهو يدرك والجميع يعلم بالطبع، أن المقترح لا يتجاوز حدود الدول الثماني العربية/الإسلامية، بما فيها تركيا وقطر، التي باجتماعها مع ترامب في أواخر أيلول الماضي، فتحت الطريق أمام وقف الحرب، وبالفعل تجاوز الأمر وقف إطلاق النار إلى حين تحرير المحتجزين كما كان يتمنى نتنياهو، ومن ثم يعاود الحرب، حيث كبح ترامب جماحه، وقال له: انتهت الحرب، أما القوات الدولية هذه ورغم أنها لن تكون «يونيفيل» أي قوات أمم متحدة، إلا أنها ستتسلح بقرار من مجلس الأمن، لن يمر إلا بموافقة روسيا والصين، وفرنسا وبريطانيا بالطبع، أي لن يكون على «هوى « أميركا فقط.
ونتنياهو لم يعد له من حليف سوى ترامب، بينما شقة الخلاف مع ترامب نفسه تزداد حدة مع مرور الأيام، خاصة أن أميركا، بعد أن عجزت عن وضع حد للحرب الروسية الأوكرانية، وعن احتواء الاقتصاد الصيني، تذهب إلى حديقتها الخلفية، لتعيدها إلى حظيرتها، بعد أن تزايدت مظاهر الخروج عن طاعتها، فبعد فنزويلا، ظهرت كولومبيا، ثم المكسيك، لدرجة أن علاقات ترامب مع قادة هذه الدول باتت متوترة جداً، وتهدد باندلاع حرب حقيقية في الكاريبي، وهذا يعني انكفاء أميركا، وابتعادها عن الشرق الأوسط، ورفع يدها تدريجيا عن إسرائيل، وإسرائيل بعد كل ما أحدثته من عداء مع دول الشرق الأوسط، ستجد نفسها في موقع لا تحسد عليه، ستكون مضطرة لتقديم كل ما تحتله من أرض دولة فلسطين، ومن أراضي سورية ولبنانية وأردنية، بين ليلة وضحاها حتى تبقي على دولتها قائمة، وقابلة للتعايش مع المحيط، وهذا يتطلب اختفاء اليمين المتطرف الإسرائيلي تماماً من المشهد السياسي الإقليمي ثم الداخلي الإسرائيلي.