تاريخ النشر: 07 تشرين الثاني 2025


آراء
في نيويورك ينتخبون مسلماً ..!
الكاتب: أكرم عطا الله

لم يكن الطفل زهران ممداني يبلغ العاشرة من عمره عندما هزت مدينة نيويورك ضربة برجي مركز التجارة العالمي على يد القاعدة التي يقودها أسامة بن لادن، لتعلن أميركا أن قوة إسلامية استهدفت البلاد وأن حربها ضد هذه القوى ومن يمثلها وضد الأيدلوجيا التي تقف خلفها ستكون حرب الولايات المتحدة للعشرية القادمة، وهذا ما ولد مناخات في المدينة معادية لكل ما هو إسلامي بما فيها عائلة ممداني التي كانت قد وصلت للتو للمدينة وتأثرت بتلك المناخات، لكنها ربت ابنها على القيم الإنسانية التي تتجاوز الأديان وصراعاتها.
الآن بعد ربع قرن من ذلك الحدث الأبرز للمدينة على امتداد تاريخها وفوبيا الإسلام الذي صنعته جهات التقطت الحدث، ينتخب سكان المدينة الأكبر في الولايات المتحدة مسلماً عمدة لها، صحيح أن الدين لم يعد عاملاً يذكر في المجتمعات الحديثة لكن من اللافت أن ماكنة غسيل للدماغ عملت ضد العمدة الأصغر سنا حيث الوجود الأكبر للجالية اليهودية في الولايات المتحدة والتي يبلغ عددها مليوني شخص لم تتوانَ قيادتها ورؤوس أموالها عن العمل ضد المرشح الأكثر جرأة في الإعلان عن مواقف صلبة ومعادية للهمجية الإسرائيلية دون أن يرتعش أو يبحث عن حلول وسط بين الإبادة ونقيضها.
كان ترامب المعروف بثرثرته يعبر عما حدث ويحدث في الولايات المتحدة التي بدأ جيل جديد في العقد الأخير ينفض عن نفسه غبار سطوة اللوبي اليهودي في بلاده معرباً عن استقلال ما حيث كان التعبير الأبرز للرئيس الأميركي حين قال: «نشأت في عالم تدور في السياسة حول إسرائيل، كلمة سيئة واحدة تبعدك عن السياسة، الآن كلمة واحدة جيدة عن إسرائيل تبعدك عن السياسة» هذا هو التعبير الصارخ عن دولة تتجه في عقودها الثلاثة الأخيرة نحو التدين والأسطرة والتخلف محدثة عملية قطع مع السياق الحضاري للدول العلمانية الحديثة وقيمها لتجيء الحرب الأخيرة بما تحمله من وحشية فتنزع آخر الأوراق التي تتغطى بها إسرائيل.
خسرت إسرائيل في أكبر الساحات حضوراً وتأثيراً حيث رأس المال الذي يهابه الجميع ويصنع قوة سياسية لا تعادلها أي قوة في الولايات المتحدة، فقد ضخت الحركة الصهيونية وممولوها مئات الملايين لإسقاط ممداني وصلت كما يقول الناشط في الولايات المتحدة الدكتور سنان شقديح إلى 300 دولار للصوت الواحد من خلال توظيف عشرات الآلاف من المتطوعين مقابل 35 دولاراً للساعة الواحدة في الأحياء الفقيرة، تضاف تلك القوة لماكنة الدعاية التي عملت على تخويف الناخبين الذين شهدوا سقوط أبراج التجارة من رهاب الإسلام وتهمة معاداة السامية، لكن كل تلك لم تفلح في إسقاط الرجل الذي فاز بأغلبية كبيرة لتكون النتيجة هزيمة كبيرة لإسرائيل ولوبيهات ضغطها بعد أربع سنوات من قرارها تخصيص مليار دولار للدعاية في الخارج بعد حرب 2021، والمظاهرات الصادمة حينها التي جابت كبرى العواصم.
وقد بلغ البذخ الإسرائيلي ذروته في هذه الحرب بإعطاء كل مؤثر 7000 دولار عن كل تغريدة، لكنها لم تكتشف بعد أن الزمن تغير وأن تحولات هائلة طرأت على الوعي الدولي منذ أحداث كورونا وحرب روسيا وحرب غزة.
ولم يعد العالم يرى الأحداث بعيون إسرائيلية ـ بل يراها الآن بعيونه المفتوحة على الأحداث.
«حصن عظيم سقط دون أن يُسمع سقوطه» هكذا وصف الصحافي الإسرائيلي تسيفي يحزقيلي سقوط الخلافة اليهودية في عاصمتها حيث المال فيها هو التعبير الأبرز عن السياسة.
صحيح أنه يمكن القول إن الخاسر الأكبر لهذه الانتخابات هو إسرائيل ولوبيهاتها. لكن الخسارة كانت من نصيب الرئيس دونالد ترامب الذي لم يشهد أي رئيس هبوطاً في التأييد القياسي بهذه السرعة في العام الأول من حكمه، لذا يمكن القول إن التصويت بجزء منه كان عقاباً لترامب الذي ينتصب برجه العقاري كتعبير عن الطبقة المتوحشة على مصب نهر هدسون في حي مانهاتن الأكثر شهرة في المدينة حيث المعالم البارزة وكبرى الشركات العابرة للقارات.
الإسرائيليون ووسائل إعلامهم بما فيها هآرتس يندبون سقوط القلعة، أما الإسلاميون الذين طاروا فرحاً بالعمدة الجديد قبل أن يكتشفوا أن لا علاقة للرجل بتصورهم للدين ليصابوا بالتلعثم.
فالرجل مسلم بالهوية لا بالممارسة، فهو اشتراكي من الجناح اليساري بالحزب الديمقراطي الذي يتزعمه بيرني ساندرز وقد وصفه الرئيس ترامب بـ «الشيوعي» عندما كان يحاول إثارة فزع رأسماليي المدينة، ولأن الحكم على الأشياء بالمنظور الديني الصغير الذي تجاوزته الشعوب في تقييمها للبشر من الطبيعي أن يصاب المتدينون بالارتباك، لكن حين يكون الحكم وطنياً يختلف الأمر.
سر الفوز لدى ممداني أنه كان قوياً في التعبير عن نفسه، ولم يصب بالذعر حين اتهموه باللاسامية أو بالإسلامية في بلد تلقى ضربته الأكبر من الإسلاميين، ولم يحاول أن يكون انتهازياً يبحث عن حلول وسط، كان حاداً واضحاً صادماً في لحظة ما لم يتراجع ممثلاً لجيل جديد أطلق عليه جيل «Z» هذا الجيل الخارج لتوه من لحظة مختلفة ومعايير مختلفة ليسقط كل تقليديات السياسة ومعاييرها ... على إسرائيل والعالم أن يتجهز لتغيرات كبرى ليست أقل من صدمة ممداني.