تاريخ النشر: 07 تشرين الثاني 2025


آراء
لبنان بين الصمود والاستسلام
الكاتب: محمد ياغي

الهجمات التي نفذتها دولة الاحتلال على ثلاث قرى لبنانية (عيتا الجبل، وطور دبا، والطيبة)، والتي أتت بعد ساعات من رفض حزب الله لدعوة الرئيس اللبناني للتفاوض من أجل ترسيم الحدود البرية معها، هي استمرار للسياسات العدوانية على لبنان منذ وقف إطلاق النار نهاية العام الماضي.
ورغم أن لا أحد يستطيع التأكيد ما إذا كانت هذه الهجمات ستنتهي اليوم أم أنها ستتواصل وستتوسع خلال الأيام القادمة، إلا أن المؤكد هو التالي: دولة الاحتلال لم تنتصر في أيٍ من المعارك التي تخوضها منذ معركة طوفان الأقصى، وأن الجبهات جميعها ما زالت مفتوحة وأنها بحاجة لإغلاقها بانتصارات حاسمة تعيد لها مَجدها الذي بنته بعد هزيمة ثلاثة جيوش عربية العام 1967.
دولة الاحتلال، بالتالي، ليست في وارد الوصول الى تفاهمات لا مع لبنان (أو الفلسطينيين أو السوريين أو الإيرانيين، أو اليمنيين). إنها تريد إخضاعهم بكل ما تمتلك من قوة، وهذا الإخضاع في تقديرها، هو النصر المطلق الذي يتحدثون عنه. هذا يعني أنها مستمرة في السعي لتحقيق مطالبها القصوى المُعلنة وهي باختصار: فرض شروطها بالاستسلام على جميع خصومها.
في لبنان تريد دولة الاحتلال تحقيق ثلاثة أهداف: نزع سلاح حزب الله وإخراجه من دائرة المواجهة معها وإلغاء ارتباطه مع إيران؛ فرض التطبيع على الدولة اللبنانية وإدخالها عنوة للحظيرة الإبراهيمية؛ تحويل لبنان بأكمله الى دولة منزوعة السلاح، ما يُمكنها من توسيع حدودها البرية الشمالية (وحدودها البحرية الاقتصادية) على حسابه كما تفعل الآن في سورية وغزة.
وهي ترى أن هنالك فرصة مواتية لها لتحقيق هذه الأهداف، وعناصرها وجود إدارة أميركية متواطئة معها بالدعم العسكري والسياسي، وجود معارضة لبنانية تطالب بتجريد حزب الله من سلاحه ومُنفتحة على تقديم التنازلات لها، ووجود نظام في سورية على استعداد للتخلي عن لبنان (وعن جزء من أرضه أيضا) مقابل البقاء في السلطة.
في حسابات دولة الاحتلال، الهجمات العسكرية على لبنان تحقق عدة أهداف لها: هي تمنع إعادة إعمار القرى والبلدات والأحياء اللبنانية التي احتضنت المقاومة، وهذا قد يؤدي الى فصل المقاومة عن حاضنتها الشعبية، وهي تبقي حزب الله في موقع الدفاع والعجز عن إعادة بناء قوته، وهي أيضاً تدفع الدولة اللبنانية وتحت مسمى عدم إعطاء الذرائع لاستمرار الهجمات، الى ممارسة الضغوط على الحزب لنزع سلاحه، بما في ذلك الذهاب بعيداً باتجاه الحرب الأهلية.
لذلك فإن الهجمات الإسرائيلية لن تتوقف وستتصاعد في الأيام والأسابيع والأشهر القادمة بهدف تحقيق الأهداف التي أشرنا لها أعلاه. والسؤال بالتالي ليس إن كان هذا التصعيد سيتحول الى حرب برية على المقاومة في لبنان أم لا، لأن هذا يفرضه الواقع الميداني (الهجمات الجوية الكثيفة والمستمرة هي المفضلة لدولة الاحتلال، لكنها أيضاً لا تتورع عن الزحف البري للسيطرة على الأرض). السؤال هو ماذا يُمكن للمقاومة أن تفعله لمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها.
خيارات أي مقاومة حقيقة محدودة جداً، لأنها لا تمتلك قوة ردع كافية لمنع الحرب أو ما دونها من هجمات للدول المُستعمِرة، وأكثر ما فعلته حركات المقاومة في كل تاريخها منذ القرن التاسع عشر هو الصمود والاستنزاف: هذا ما فعله الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، ما فعله الشعب اليمني ضد الاستعمار البريطاني، الفيتنامي ضد الاحتلال الأميركي، الأفغاني ضد الأميركي أيضاً، وهو ما فعله الشعب اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي بين الأعوام 1982 و2000 عندما هرب الأخير في جنح الظلام بدون قيد او شرط في سابقة لم تحدث في تاريخ دولة الاحتلال.
لكن علينا أيضاً أن نعترف أن هنالك مُتغيرين: الأول هو أن دولة الاحتلال أصبحت تمتلك قدرات تدميرية أكبر بكثير من تلك التي امتلكتها سابقاً بفضل تطور التكنولوجيا والدعم الأميركي اللامحدود لها؛ والثاني هو أن مُجتمع دولة الاحتلال تحوّل الى مُجتمع يستسهل الإبادة ولا يكترث بسمعته الدولية ولا بمشاهد القتل لعشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وبالتالي فإن كلفة الصمود والاستمرار في المقاومة مُرتفعة جداً، وربما أضعاف الكلفة التي كان على المقاومة وبيئتها احتمالها سابقاً.
هذا الواقع الجديد لا يعني أن خيارات المقاومة قد تقلصت أكثر لأنها كانت دائماً الصمود والاستنزاف؛ الذي تغير فقط هو ان كلفة تحقيق ذلك أصبحت أعلى بكثير من السابق. وبالتالي فإن التحدي للمقاومة هو بين قبول الكُلفة المرتفعة أو الاستسلام الذي في جوهره يعني التخلي عن الأرض والسيادة والكرامة والقبول بالذل، وهو ما لا تقبله الفِطرة الإنسانية: حتى العبيد في تاريخهم انتفضوا على أسيادهم مرات ومرات الى ان تحرروا.
هنا علينا التذكير أيضاً، أن دولة الاحتلال ورغم الدعم الأميركي لها وتكنولوجيا الدمار الفائقة التي تمتلكها تعاني أيضا بطريقة لم يعانِ منها أي احتلال آخر في التاريخ: هي من جهة فقدت أي تعاطف شعبي دولي معها، وأصبح قادتها وجنودها متهمين بارتكاب جرائم حرب ومطاردين من محاكم دولية، وهي دولة لا تستطيع الادعاء بأنها قادرة على توفير الأمن لشعبها رغم كل الجرائم التي ترتكبها، وهي مُهددة بفرض العقوبات الاقتصادية عليها إذا ما استمر الزخم الشعبي العالمي ضدها، وهي تعاني اقتصادياً، ومجتمعها ورغم توحده ضد العرب إلا أنه منقسم على نفسه، وهذه جميعها لا تسمح لها بتحقيق الانتصارات الحاسمة التي تريدها.
لبنان، كما فلسطين، في لحظة فارقة من تاريخه، وخياره هو ما بين الصمود، رغم كلفته العالية، للوصول الى سلام عادل ودائم، أو الانكسار وإعطاء الاحتلال ما عجز عن تحقيقه خلال أكثر من سنتين من الحرب عليه.