تاريخ النشر: 02 تشرين الثاني 2025


آراء
«حـمـاس» ومـغـامـرات غـزة
الكاتب: عاطف أبو سيف

توقفت الحرب قليلاً لكنها لم تنته. وما يبدو اتفاقاً مؤقتاً قد يكون بداية عهد جديد من العلاقة بين غزة ودولة الاحتلال.
وقطاع غزة الذي كان يشير بوهن إلى الفردوس المفقود شماله وشرقه (فلسطين العام 1948) بات مقسماً بدوره إلى مناطق مفقودة ومناطق شبه مفقودة، وفيما قد يبدو الخط الأصفر خطاً وهمياً من أجل فض الاشتباك المؤقت إلى حين الانسحاب الكامل، فإن حقائق جديدة تترسخ تدريجياً حيث ينكمش قطاع عزة إلى أقل من النصف أو في أفضل الحالات يصبح لدينا «قطاعان» لغزة، قطاع شرق الخط الأصفر وقطاع غربه.
وأمام هول كل ما حدث بعد سنتين من الإبادة ولا بد من إضافة توصيف ملاصق لهذه الإبادة يتمثل بـ»مغامرات حماس» بمصير غزة، أقول أمام هول كل ذلك لم نسمع أي مراجعة وطنية حقيقية، ولم تقدم لنا حماس أي تفسير حول ما جرى باستثناء مواصلة سردية التضليل التي تعزفها لها مواقعها والمواقع المساندة حول عذابات وخسائر العدو، إمعاناً منها ومنهم بازدراء معاناتنا في غزة وخسائر شعبنا كأنها ليست أكثر من خسائر جانبية أو تكتيكية فعلاً، كما عبر بعض قادة حماس في تصريحات ما زلت أقول إنهم يجب أن تتم محاكمتهم لقولها.
صحيح أن الأمور لا تقاس بخواتيهما في سياق الكفاح الوطني، وعلينا أن نحذر من بعض القياسات وسحب النتائج وتعميمها لكن أيضاً من المهم أن نفهم السياقات التي قادت إلى تلك الخواتيم.
وبمراجعة خطاب قادة حماس كلهم بلا استثناء، خاصة في أشهر الحرب الأولى، فإن هدفاً واحداً مما وعدوا به لم يتحقق، حتى خروج الأسرى الأبطال كان فرحة منقوصة بسبب تحّكم إسرائيل بمعايير الإفراج وعدم إطلاق سراح بعض الإخوة خاصة القائدين مروان البرغوثي وأحمد سعدات ولا القيادي الأبرز لحماس في السجون حسن سلامة، وحقيقة أن أعداد الأسرى في السجون تضاعفت أكثر من ذي قبل.
لم يتحقق حرف واحد من خطابات قادة حماس التي كانت ثملة بوهم أكبر من حجم اللحظة.
وفجأة اختلف الخطاب مائة وثمانين درجة وصار هم حماس تسليم الأسرى والجثامين بل إن استخراج تلك الجثامين التي استشهد بسببها عشرات الآلاف مهمة وطنية وكفاحية وجهادية ومقدسة.
كل ذلك دون أن تتوجه حماس بكلمة واحدة للشعب لتشرح له ماذا فعلت به، أو إلى أين قادته ورمت بمصيره في غياهب المجهول.
النتيجة الوحيدة المؤكدة لكل ما جرى هي ما يراه شعبنا وما يعيشه فعلاً، لا ما يتم تسويقه عبر حملات التضليل وكتابات المرفهين خارج غزة.
الخط الأصفر بات يمر من منتصف مخيم جباليا وبقية المخيم في مرمى نيران المدفعية، شرق خان يونس اختفى.
حماس فعلت تماماً مثل الدول العربية وقت النكبة، وقعت اتفاقاً يبقي العدو حيث وصلت قواته، وبالتالي سلمت أكثر من نصف غزة على طبق من دم وألم ومعاناة له.
ويظل السؤال الأكثر إيغالاً في الجرح النازف: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟
ألم يكن من الممكن وقف هذا النزف مبكراً؟.
والإجابة الموجعة التي يعرفها الجميع أنه كان يمكن وقف الحرب قبل ذلك بشهور طويلة خاصة أن حماس وافقت على مطالب العدو كاملة بل منحته عبر رفضها المستمر الوقت لتحقيق المزيد من المكاسب حتى يتمكن من وضع المزيد من الشروط، التي قبلت بها في نهاية المطاف، وكنا مثل الآلاف نصرخ بأن وقف الخسارات مكسب وبأن ما لا يدرك كله لا يترك جله وغير ذلك، ولكن بلا فائدة.
أما وقد دخلنا مرحلة جديدة من الاحتلال والحضور الأجنبي ومؤسسات المساعدات وربما أونروا جديدة، فإن لسان حالنا يشبه القول المروي تارة عن سيدنا علي وأخرى عن الإمام الشافعي: «ما جادلت عالماً إلا غلبته وما جادلت جاهلاً إلا غلبني».
حماس تريد أن تتعامل مع نتائج الحرب كأمر طبيعي، وكأن هذا ما كان يجب أن يحدث دون أن تتحمل أدنى مسؤولية عن مآلات طوفانها الذي أغرق في النهاية غزة وأخذها إلى نهايات لم تكن في أسوأ كوابيسنا الوطنية.
فبالنسبة لحماس ما جرى ليس إلا فصلاً آخر من القتال ضد العدو، وهذا غير دقيق بأي معنى إلا إذا كانت غاية القتال مع العدو التضحية بالأرض وبالسكان كما فعلت حماس.
وإذا كان ثمة من يريد أن يقول إن هذا عدو وماذا كنا نتوقع منه وإنه كان سيفعل ذلك بأي حال، وعليه لا عتب على أحد، فإن من يقول ذلك يريد لي أن أفقأ عيني وأتظاهر مثله بأنني أرى كل شيء.
ببساطة إذا كان الأمر كذلك، بمعني أن العدو كان سيفعل هذا بأي حال، فلماذا من الأساس إذاً نناضل من أجل البقاء ومن أجل استرداد الأرض.
الأمر لا بد أن يكون على نحو مختلف. ما حدث لم يكن أمراً طبيعياً، وبصرف النظر عن مقاصد «مغامرات» حماس التي لم تتوقف منذ قررت عن سبق إصرار وترصد الانقلاب على الشرعية الوطنية العام 2007 مجهضة أهم تجربة ديمقراطية في تاريخ المنطقة حين سلم لأول مرة حزب حاكم الحكومة لتنظيم معارض سلمياً، منذ تلك اللحظة وحماس تواصل اللعب بمستقبل غزة عبر حروب لا تجني منها إلا تضليل السكان وجرهم إلى مربع «التسحيج والتطبيل» الذي تقوده فرقها الإعلامية في المحيطين العربي والإسلامي.
هل انتهى كل شيء؟ ليس تماماً. أدخلتنا حماس في دوامة لن تنتهي بسهولة.
ولا يجب أن نتوقع أن الاتفاق سينتهي بسهولة وأن مصير غزة سيكون جميلاً كما نرغب، كما أن وجود إدارة فلسطينية صرفة لغزة صار من القضايا التي بحاجة لنضال وطني وسياسي ودبلوماسي بسبب مفاوضات حماس الباسلة.
غامرت حماس بمستقبل غزة وهي تعرف أن هذه المغامرة أيضاً ترمي بالمصير الوطني برمته في المجهول، ومع ذلك تواصل التعامي عن كل ما أوصلتنا إليه وتتصرف بأن الأمر طبيعي والأدهى أن سردية الإنكار ما زالت تسيطر على وعيها. «لَا تَعْمى الأبصار وَلَٰكِن تَعْمى الْقُلُوبُ التي في الصدُور».