في تقديم كتابه الإشكالي «الارتباط»، يورد المؤلف تسفي ميسيناي مقولة مهمة لألبرت أينشتاين، هي: «إنك لا تستطيع أن تحل مشاكل بوساطة ذلك الوعي الذي أوجدها». وهذا يعني ببساطة أن من يكون جزءاً من المشكلة لا يمكنه أن يكون جزءاً من الحل، لأن الوعي وطريقة التفكير التي أوجدت هذه المشكلة لا يمكنهما أن يتحولا بين ليلة وضحاها إلى أداة نقيضة وقادرة فجأة على إيجاد النقيض لتلك المشكلة.
بعبارة أكثر تبسيطاً، إن من أوجد المشكلة لم يكن يعرف من الأساس أنه يتورط ويورطنا، بل كان يعتقد أنه يبحث عن حل لمشكلة يراها هو، أي أن هذا التوريط كان في حقيقته حلاً من وجهة نظر وانطلاقاً من وعي المتسبب به. هذا بالطبع إن افترضنا أن المتسبب بالمشكلة يمكنه الاعتراف أصلاً أنها مشكلة، وهنا نحن أمام عدة احتمالات، فلنحاول إسقاطها على ما نحن فيه:
باستثناء قلة قليلة من الفلسطينيين، إن الجميع يعترف بأن الشعب الفلسطيني في غزة دفع ثمناً بشرياً، وعمرانياً، ونفسياً لا يمكن تجاهله، أو المرور عليه وكأنه لم يحدث، وأن هذا الثمن لا يمكن، بأي حال من الأحوال، قبوله كمقابل للنتيجة التي يفاخر بها البعض، كوضع القضية على أجندة العالم، أو عزل إسرائيل، أو تجريدها من القيم السياسية والأخلاقية التي تدعيها.
وإذا أضفنا إلى هذا الثمن الانعكاسات التي حدثت على القضية الفلسطينية نفسها، وتحوّلها من قضية تحرر وطني وإن كانت خامدة أو في الأدراج، إلى قضية إنسانية تخص المنكوبين، وإلى قضية أمنيّة يتم التعامل مع بعض عناصرها بأدوات ولغة مكافحة الإرهاب، فإننا أمام ورطة سياسية واجتماعية لا يمكن الخروج منها إلا بمعجزة.
إذاً نحن أمام مشكلة تبحث عن حل، على الأقل من حيث النتائج على الأرض، أو استناداً إليها. بالطبع، إن هناك من لا يعترف بهذه النتائج ولا يراها، أو هو يعتبرها تضحيات لا بد منها، وبالتالي فهو يقدّم تحليله ومرافعته بناء على المأمول القادم، أو الذي يتوقع حدوثه. ومع أن هذا المأمول بحاجة إلى مؤشرات تدل عليه، إلا أن أصحابه لا يبحثون عنها عند الفلسطينيين وداخل قضيتهم ذاتها، بل خارجها. ما يعني أن هذه المؤشرات قابلة للتغيير لأن المتحكم في مسارها هو الخارج لا نحن، أي أن البناء عليها ضرب من الخيال، أو التمني في أحسن الأحوال.
على كل حال، سواء أطلقنا على حالتنا في غزة مسمى الكارثة أو مسمى التضحية، فلا أحد ينكر الحاجة لتغييرها، أو تجاوزها للوصول إلى وضع أفضل يحفظ للفلسطينيين حياتهم، ومستقبل قضيتهم كما كانوا يسعون ويعملون لأجلها فيما مضى، أي قبل السابع من أكتوبر.
إذاً نحن بحاجة لتجاوز ما نحن فيه، وهذه الحاجة يتفق عليها الجميع بلا استثناء، المنكوبون في غزة، ومنتظرو نكبتهم في الضفة، التيارات التي كانت لأسباب سياسية، أو أيديولوجية ضد هجوم السابع من أكتوبر، وتلك التي أيّدته وراهنت عليه طويلاً، المنخرطون في النضال وفي السياسة، والمتفرجون خلف شاشاتهم في عواصم التشجيع العربي. الكل يتفق، بمن فيهم «حماس» وقادتها والناطقون باسمها وحلفاؤها، على أننا أمام نكبة جديدة تتجاوز في بعض جوانبها ما حصل لنا عام 1948 بل وتتفوق عليه.
وما دمنا كذلك، فهذا اعتراف ضمني أن ما نحن فيه ليس انتصاراً، كما يحاول البعض تصويره بالموازاة مع هذا الاعتراف، رغم ما في ذلك من تناقض صارخ، وشذوذ عن كل قواعد علم السياسة والمنطق، وحتى الأسس البسيطة للرياضيات.
وهنا يبرز السؤال الأهم، وهو: كيف يمكننا تجاوز هذه النكبة؟ ونحو ماذا؟ وهذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه من قِبل فرد هنا، وفصيل هنا، بقدر ما يمكن الإشارة إلى الأدوات التي عليها الإجابة وطرح الحلول، والبيئة المؤسِّسة والقادرة على إنتاج هذه الأدوات وتقديمها.
بمعنى آخر بسيط، ليست كل الإجابات مقبولة، ولا ينبغي لها أن تكون مقبولة، كما أنه ليس للجميع الحق بالمساهمة في هذه الإجابة، ولو بمنطق الصف المدرسي، أي أن التلميذ الذي يخطئ يتم تجاوزه إلى سماع تلميذ آخر، ولا يتم التوقف عنده لسماع احتمالاته ومحاولاته في انتظار الإلهام الإلهي له، فكل دقيقة من هذا الانتظار تُخصم من حق الآخرين في إبداء آرائهم وطرح إجاباتهم، ولا نبالغ إن قلنا: إنها تُخصم من أعمارهم، وبالذات حين تكون الإجابة الأولى لهذا التلميذ قد تسببت بحرق الصف.
وكما التلميذ الفاشل، فإن الجماعة الفاشلة والفصيل الفاشل لن يتوانى عن وصف الآخرين بالفشل، وسوف يحاول إلى آخر نفس أن يبرر حماقاته بمقارنتها بحماقات حقيقية أو مفترضة للآخرين، وكأن فشل الآخرين هو المقياس لا نجاحهم. فإذا كانت أوسلو لم تحرر كل الأرض الفلسطينية ولم تُنشئ عليها دولة، فلماذا الاعتراض على خسارة نصف غزة؟ أما أن يرى النجاح ويبني عليه فهذا من مستحيلات السياسة.
وهو من المستحيلات لأنه لا يتوافق أساساً مع فكر وبرامج الحركات الأيديولوجية، تحديداً حركات الإسلام السياسي. فهذه الحركات عدا كونها لا تؤمن بالوطن كبقعة جغرافية محددة تحكمها سلطة سياسية ممثلة لكافة مكونات هذه البقعة، بل بالأمة النقية دينياً وحتى طائفياً، وعدا كونها لا تؤمن بالسياسة بمفهومها الحديث، ولا بالعلم كأداة للتغيير، ولا بالقانون الوضعي الذي صاغه البشر عبر مراحل تطورهم وتطور قيمهم، فهي حُكماً لا تؤمن بالحوار مع الآخر المختلف، فما بالك بالشراكة معه، ولو بقضية صغيرة كمحاولة الإجابة عن الأسئلة الملحة.
ولأننا أمام حالة يقوم فيها المخطئ، ومن شجعوه وصفقوا له، بوصف الكارثة التي نتجت عن خطئه، ثم التباكي عليها وعلى ضحاياها، دون الاعتذار العلني والصريح عن الخطأ ذاته، ولأننا أمام حالة تستمر فيها المقارنات مع تجارب لا تشبهنا، وتستمر فيها المراهنات على التغيرات الخارجية، وتحديداً عند عدونا وفي ساحته، دون مبادرات حقيقية من طرفنا أو الركون على قوانا الذاتية وتفعيلها، ولأننا ما زلنا نعتقد أن الوعي الذي أوجد المشكلة بمقدوره أن يجد الحل لها، فلن تقوم لنا قائمة أبداً. نستكمل في المقال القادم.