تاريخ النشر: 31 تشرين الأول 2025


آراء
المعروض: استسلام لا سلام
الكاتب: محمد ياغي

عندما يتفهم «الوسيط» الأميركي إعدام دولة الاحتلال لمائة وستة فلسطينيين رداً على مقتل جندي في مدينة رفح المُحتَلة، وعندما يوافق هذا الوسيط على بقاء دولة الاحتلال في أكثر من نصف مساحة غزة، ويهدد بين الفينة والأخرى بإطلاق يدها لإبادة مَن تبقى منهم على قيد الحياة إذا لم يتم إعادة جثامين قتلى الاحتلال بسرعة، فإن ما يَعرضونه ليس مساراً للوصول الى سلام وإنما هو طريق للإخضاع والاستسلام.
الوسيط الذي لا يُصدر بياناً يدين فيه فصل جنوب الضفة الغربية عن شمالها بعد إقرار دولة الاحتلال للمشروع الاستيطاني المسمى E1 والذي يربط مستوطنة معاليه أدوميم بالقدس، ولا يندد بقرار هدم 30 وحدة سكنية فلسطينية في القدس، ولا يُعلق على جرائم المستوطنين في الضفة الغربية، يكذب بشكل صريح عندما يقول بأنه يرفض إعطاء ضوء أخضر لحكومة الاحتلال بضم الضفة الغربية.
المشروع الإسرائيلي الأميركي في المنطقة واضح، ولا يوجد خلاف بين الدولتين بشأنه: هم يريدون تصفية المقاومة في كل المنطقة، تحويل غزة والضفة والجنوب السوري واللبناني لمناطق عازلة لدولة الاحتلال، وتحويل السلطات فيها الى أدوات لحماية أمنها.
دعونا لا نخدع أنفسنا. لقد تبنت دولة الاحتلال حرب الإبادة كعقيدة عسكرية، وهي تُمارسها بأبشع صورها في غزة، وتُلوّح باستخدامها في لبنان، وهذه العقيدة سَتحكم السلوك العسكري الإسرائيلي مع خصومها في المدى المنظور.
لم يَكن تبنّي هذه العقيدة نتاج تفوق تقني لدولة الاحتلال، ولكنه نتيجة شعور عميق بالضعف والخوف والعجز. التفوق التقني من المفترض فيه أن يسمح بوقوع عدد محدود جداً من الضحايا المدنيين ومن الدمار للبنى التحتية. لكن الشعور بالضعف والعجز يجعل من قتل جميع مظاهر الحياة للعدو، بشراً كانوا أم بُنى داعمة لها، الطريق الوحيد للخلاص من هذا الخوف، ومن هنا تصبح الإبادة هي الحل الأمثل في نظرها.
وإذا كان هنالك من يَرعى الإبادة ويبررها ويدافع عنها دولياً مثلما تفعل الولايات المتحدة والكثير من الدول الغربية، فإن الإبادة تتحول الى طريق للإخضاع والابتزاز، ليس للفلسطينيين فقط، وإنما لكل المنطقة، ولسان حالهم يقول علناً: إذا لم تعطوا إسرائيل ما تريد، فإنها ستفعل بكم ما تفعله في غزة.
أو ليس هذا ما يقولونه للحكومة اللبنانية: قوموا بتجريد حزب الله من السلاح الآن وإن لم تفعلوا فإن مصير لبنان سيكون مثل غزة. وهو ما يقولونه أيضا للحكومة السورية: وافقوا على بقاء الجنوب السوري خالياً من السلاح، أعطوا لإسرائيل الجولان وجبل الشيخ، اسمحوا لها بالتواصل مع المناطق الدرزية وتسليحها، ولا تمتلكوا أية أسلحة تهدد أمنها، وإن لم تفعلوا فإن يدها ستبقى طليقة لتفعل ما تريد بكم.
إن ما يعرضونه ليس سلاماً قائماً على العدل والحياة الحرة الكريمة لشعوب المنطقة، وإنما خيار بين الإبادة أو الاستسلام، بين الموت والعبودية: الأول موت لكن بكرامة، والثاني حياة بلا كرامة. الأول موت لمرة واحدة، والثاني موت بطيء. بين الخيارين، لا يوجد ما هو سيئ وما هو أقل سوءًا. كلاهما سيئ ولا يُمكن التعايش معه، وسيكون من المستحيل أن يصل الشعب الفلسطيني، او اللبناني أو السوري، الى إجماع بشأن أيٍ من الطريقين هو الأفضل لهما، وبالتالي فإن من المرجح أن تستمر حالة الحرب في الإقليم.    
إن الطريق لتحقيق السلام واضح، وإذا كان الوسيط الأميركي صادقاً في رغبته بذلك، فعليه أن يبدأ أولاً بمطالبة الاحتلال وبشكل علني بوقف كل أنشطته الاستيطانية في الضفة الغربية، بإلزامه بمغادرة كل أراضي غزة وإنهاء الحصار المفروض عليها منذ العام 2007 وفتح معابرها، وباستصدار قرار مُلزِم من مجلس الأمن يطلب إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، والعربية أيضا، وخلال مدة زمنية يعلمها العالم بأسره.
لكن الوسيط يكذب، وما يريده ليس طريقاً للسلام، وإنما مساراً يسمح بتطبيع علاقات الاحتلال مع العالم العربي من خلال تصفية كل من يعترض على ذلك.
يبدأ هذا المسار المُخادع عن طريق إخضاع الفلسطينيين لأولويات الاحتلال المُعلَنة: تصفية المقاومة الفلسطينية بتجريدها من سلاحها، تشكيل حكومة فلسطينية في غزة على مقاس دولة الاحتلال، تشريع وجود الاحتلال في نصف مساحة غزة، وإحضار قوة دولية لإسرائيل حق الفيتو على من يشارك فيها، ووظيفتها الوحيدة هي حماية دولة الاحتلال وتبرير جرائمها في غزة. وفي الضفة وتحت مسمى إصلاح السلطة، ستجري عملية إعادة بناء لها هدفها السيطرة على قرارها السياسي.
خلال ذلك ستستمر محاولات إخضاع الساحتين اللبنانية والسورية: الأولى بالضغط لافتعال حرب أهلية فيه بحجة تجريد حزب الله من سلاحه أو بتكثيف العمليات العسكرية الإسرائيلية ضده؛ والثانية بالابتزاز عبر التهديد بتقسيمها، والإغراء بإعادة الإعمار والاستثمار.
يلي ذلك إعادة طرح صفقة القرن، التي رفضها الفلسطينيون سابقاً، لكن هذه المرة ليس بهدف التنفيذ، ولكن لخلق مناخ سياسي للعودة لمسار التطبيع بين بعض العرب وإسرائيل. إذا قبل الفلسطينيون بالصفقة التي رفضوها العام 2020 فإن ذلك سيجعل مسار التطبيع أكثر سهولة، لكنها لن تنفذ على أية حال، فإسرائيل لا تريد كياناً فلسطينياً الى جانبها. وإذا رفضوها مُجدداً، فإن مسار التطبيع سيستمر، لكن هذه المرة سَيُحمّل بعض العرب الفلسطينيين المسؤولية علناً عن فشل مسار «السلام»، وسَيمضون في طريق التطبيع.