كتبت بديعة زيدان:
في قلب الحراك الثقافي الذي يشهده معرض عمّان الدولي للكتاب، انعقدت ندوة حملت عنوان "كتابة اليوميات.. شهادة على الحرب"، لتسلط الضوء على واحد من أكثر أشكال الكتابة إنسانية وصدقاً في زمن الأزمات.
الندوة، التي أدارها الأديب والباحث الأردني مفلح العدوان، مساء أول من أمس، استضافت كوكبة من الكتاب والمثقفين: الكاتبة والشاعرة الفلسطينية أحلام بشارات، والروائي الفلسطيني أكرم مسلم، والكاتب الفلسطيني الأردني مهند الأخرس، لمناقشة دور اليوميات في توثيق التجربة الفلسطينية، خاصة في ظل حرب الإبادة المستمرة، مؤكدين أن السردية الشخصية خط الدفاع الأخير عن الذاكرة والحقيقة الإنسانية.
مفلح العدوان، افتتح الندوة بالتأكيد على أن كتابة اليوميات في زمن الحرب تتجاوز "التوثيق الخبري اليومي" لتغوص في "الأثر" الذي تتركه الأحداث على الإنسان والمكان، مشيراً إلى أن الرواية الرسمية أو الإعلامية غالباً ما تُغفل الزوايا الإنسانية والتفاصيل الحياتية التي تشكل جوهر المعاناة والصمود.
وأوضح العدوان أن اليوميات التي يكتبها الفلسطينيون، سواء في الداخل أو الشتات، لا تخصهم وحدهم، بل هي "لكل من ينتصر للحق والقضية والعدل"، ولكل من ينتصر "للسردية التاريخية الحقيقية لأرض وشعب فلسطين".
وقدمت أحلام بشارات شهادة أدبية وإنسانية عميقة، ربطت بين الفعل الشخصي للكتابة والقضية الجماعية، مؤكدة أن اليوميات أصبحت أداة ضرورية ليس فقط للتوثيق، بل لمحاولة فهم الواقع الفلسطيني المتشظي والإصرار على إنسانيته في وجه كل المحاولات لإنكارها.
استهلت بشارات مداخلتها لتؤكد على البعد العالمي للكتابة عن فلسطين، قائلة بوضوح: إن "فلسطين ليست للفلسطينيين فقط"، إنّما هي قضية مفتوحة أمام كل من ينتصر للحق والعدل في العالم، واضعة بذلك كتابة اليوميات في سياق أوسع حوّل فعل الكتابة من مجرد تدوين شخصي إلى مسؤولية تجاه الحقيقة، حيث يصبح الكاتب الفلسطيني، من خلال يومياته، صوتاً ليس لنفسه فقط، بل لقضية عادلة تتجاوز عرقه وهويته.
لإعطاء بُعد واقعي وملموس لكلمتها، قدّمت بشارات مقطعاً مؤثراً من يومياتها الشخصية، التي بدأت في تدوينها بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.. لم تكن القراءة عن مشاهد الحرب المباشرة، بل عن أثرها العميق على تفاصيل الحياة اليومية في الضفة الغربية، بحيث وصفت رحلتها من قريتها "طمون" إلى رام الله، وهي مسافة قصيرة جغرافيّاً، تحولت بفعل الاحتلال إلى رحلة طويلة ومحفوفة بالقلق.
وأشارت إلى أنه مع إضافة الاحتلال "89 حاجزاً في الضفة الغربية" بعد الحرب، بات التنقل بين المدن أشبه بعبور حقل من الألغام البيروقراطية والعسكرية، وهنا برزت أهمية اليوميات كأداة لرصد الواقع المتغير، موضحة كيف أصبح الفلسطينيون يعتمدون على "مجموعات الواتساب" و"الصفحات الإلكترونية" لمعرفة أي الطرق مفتوحة وأيها مغلقة، في محاولة لخوض معركة الحياة اليومية.
لم تكن شهادتها مجرد أرقام، إنّما كانت مليئة بالتفاصيل الإنسانية: السائقين، والمسافرين، والقلق المشترك، والوقت الضائع، مظهرة كيف أن الاحتلال لا يحتل الأرض فقط، بل يسيطر على الزمن ويُشظّي حياة الناس ويجعل من أبسط تنقلاتهم كابوساً يومياً، موضحة أن كتابة اليوميات، في جوهرها، محاولة "لفهم" هذا الواقع المركب.
وقدّم الكاتب مهند الأخرس نصّاً للكاتب ناهض زقوت بعنوان "أصوات الانفجارات"، كان بمثابة بث حي ومباشر من قلب الجحيم اليومي الذي يعيشه سكان قطاع غزة، بحيث نقل الحضور إلى واقع يتلاشى فيه الفاصل بين الليل والنهار، وبين لحظات الهدوء النسبي ورعب القصف المفاجئ، فشهادته ليست مجرد وصف للأحداث، بقدر ما شكّلت تسجيلاً للأثر النفسي والجسدي للحرب، حيث يصبح الجسد نفسه ساحة للمعركة، يرتجف مع اهتزاز الجدران، وتتجمد فيه الدماء مع كل صوت انفجار.
وحملت الندوة صوت أكرم مسلم، الذي حالت سياسات الاحتلال في إغلاق المعابر دون حضوره، مقدماً، وتحت عنوان "تريسياس غزة وإخوته"، نصّاً أدبيّاً فكريّاً مُركّباً وعميقاً، تجاوز كونه مجرد شهادة ليصبح تحليلاً فلسفياً وشعرياً لفعل "الشهادة" ذاته في سياق الإبادة في غزة.
النص، الذي قرأه عاقل الخوالدة مدير مديرية التراث في وزارة الثقافة الأردنية، كان أبعد من مجرد يوميات حرب، مشكلاً فسيفساء من الوجع والرمزية، بناها حول مجاز مركزي واحد "العين"، فعبر سلسلة من "العيون" المتتابعة، ينسج مسلم نصّاً هجيناً يجمع بين الرواية المتخيلة، والشهادة الواقعية الموثقة، والأسطورة الإغريقية، طارحاً سؤالاً جوهرياً حول معنى أن تكون شاهداً في زمن الإبادة، وكيف تحوّل فعل "الرؤية" نفسه إلى تراجيديا تفوق ما عرفه الأدب العالمي، ليصل إلى نتيجة مفادها أن العين في غزة لم تعد أداة للرؤية فحسب، بل أصبحت هي نفسها المشهد، والضحية، والشاهد، والقربان أيضاً.