أبو محجوب عجوز ثري لكنه أُمِّيّ، فكان يصر على إيهام الناس أنه متعلم، وكان يشتري الجريدة صبيحة كل يوم، ويجلس أمام دكانه ليشاهده المارة، وفي أحد الأيام بينما كان يمسك بالجريدة متظاهراً بالقراءة، اقترب منه أحد أصدقائه العارفين بحقيقة أمره وسأله: شو في أخبار في الجريدة يا أبو محجوب؟!
فأجابه: والله يا جار الدنيا مقلوبة
فسأله: خير إن شاء الله ليش مقلوبة؟!
أبو محجوب (يعرض عليه صورة في الجريدة لولد يركب دراجة): اتفضل شوف هاي بسكليت راكب عالولد، وهذا هو حال البلد.
(طبعاً أبو محجوب كان حامل الجريدة بالمقلوب، فاعتقد أن البسكليت راكب عالولد وليس العكس).
أبو محجوب (ولا يِغلَب استدرك) وقال: الله لا يوفقهم حتى صور الجريدة صاروا يحطوها بالمقلوب.
أشياء كثيرة باتت مقلوبة، فترى نتنياهو يهدد بمقاضاة الفلسطينيين الرازحين تحت احتلاله منذ أكثر من نصف قرن، ويقوم بحجز أموالهم وتعطيل حياتهم بعد سلب ونهب أراضيهم وممتلكاتهم وثرواتهم الطبيعية على مرأى العالم كله، ويدمر بيوتهم ويقتل أبناءهم وشيوخهم وأطفالهم، ثم يصفهم بالإرهابيين وينادي بمقاضاتهم أمام محاكم جرائم الحرب. وأكثر من ذلك، فإن نتنياهو يعتبر مطالبة الشعب الفلسطيني بإنهاء الاحتلال إرهاباً واعتداء على حكومة الاحتلال. كيف لا ونحن نشاهد تناغم التهديدات الأميركية للشعب الفلسطيني مع تهديدات نتنياهو حين تلوح واشنطن صاحبة حل الدولتين بقطع الدعم الأميركي للسلطة.
طيب قاعدين بيشنوا حروب بكل أنواع الأسلحة ومليارات الدولارات لمحاربة عصابات ومجموعات إرهابية تحت عنوان حماية الشعوب، في وقت يهددون شعبنا الأعزل لمجرد مطالبته بإنهاء الاحتلال ونيته الشكوى للأمم المتحدة على جرائم احتلالية لم ترتكب بحق الشعب الفلسطيني وحسب، وإنما بحق الإنسانية التي وجدت الأمم المتحدة من أجل حمايتها. بعض العالم المتحضر يعطينا من طرف اللسان حلاوةً لكنه يجهض مشروع قرار مطالبتنا بالحرية عند التصويت؟! والبعض الآخر يعتدون على شعبنا وممنوع علينا أن نشتكي، وفي هذا المَنع اعتراف صريح بالجريمة، ناهيك عن أن واشنطننا داعية حل الدولتين، تعلن معارضتها لإسرائيل في حجز أموال السلطة، لكن إذا ذهبنا لمجلس الأمن فستقف إلى جانب تل أبيب، إضافة الى أن واشنطن ذاتها تلوح بقطع الأموال عن السلطة في حال ذهبنا للأمم المتحدة، بصراحة شو هالسُّريالية السياسية المنفصمة أو هالعِكِّعْكاك اللامتزن؟!
في الشارع الفلسطيني اتجاهان، الأول واقعي يرفض العنف ويؤمن بالسلام الاستراتيجي وملتزم بكافة استحقاقاته ويواجه حرباً ضروساً من حكومة الاحتلال التي تعمل على إحباطه وإجهاضه صباح مساء، ويرزح بين مطرقة المعارضين وسندان الاتجاه الثاني، الذي يتهمه بالتفريط والخيانة أحياناً كثيرة، والخاسر الأول والأخير من ذلك هو الشعب والمستفيد الأول والأخير هو الاحتلال.
ويا عيني على مدعي المعرفة والثقافة، وفي إطارها وسياقاتها يدعون الثورية المتطرفة والبطولات النضالية قصداً، وهم في الواقع براء من كل ما يدعون. إذ ثمة من يدعون تلك الثورية وبطولاتها في الماضي الثوري المسلح، مستفيدين من مقولة، «ما أكذب من شاب اتْغَرَّب إلاَّ ختيار ماتت جيالُه»، وتسلقوا على أكتاف الشعب، وثمة بالمقابل من يدعون بطولاتهم الوهمية والدونكيشوتية فترة العمل السري والعلني داخل الوطن ما قبل مجيء السلطة بأوسلوها، وصعدوا أيضاً على أكتاف وتضحيات المناضلين الحقيقيين الذين استشهدوا أو طوتهم السجون سنين طوال، وما أكثرهم، فكان الصامتون المقلون في الادعاء هم أصحاب الفعل الوطني الحقيقي والفاعل في تلك الحقبة، ويؤكد ذلك وقائع الأيام الحاضرة والسالفة واللي على المُغْتَسَل بانْ، لَلِمفتحين وِالعِمْيانْ.
يعني الاتجاه الآخر المعاكس اللي بيطلق شعارات الكفاح المسلَّح ويرفض مشروع السلام، يتكون من جزأين، الأول تقوم إسرائيل بمطاردتهم واعتقالهم على اختلاف فصائلهم ومشاربهم، والثاني يمارسون الاستعراض الثوري المبالغ به، ويحرص الاحتلال عملياً على الحفاظ عليهم وإن بشكل غير معلن، لأن في مواقفهم وشعاراتهم النارية ما يؤمن الوقود اللازم والماء الثقيل في خدمة استمرار سياسات التطرف الإسرائيلي وإيجاد مبررات التهرب من الالتزام بشراكة السلام من جهة، وزعزعة وإضعاف الموقف الرسمي للسلطة وإجهاضه أمام سياسات وإجراءات الاحتلال التصعيدية المتطرفة. وها هي الحكومة الإسرائيلية تستخدم اليوم العنف والعنصرية والضغط السياسي والمالي عبر حجز الأموال عن شعبنا وسلطته الوطنية، باعتبارها أدواتهم وعدة نصبهم التي يوظفونها للتحايل والتهرب والدعاية الانتخابية. وهو الأمر الذي أدى لإخفاق المفاوضات وفشلها في الاستجابة للغاية المقصودة منها كوسيلة للتوصل لحل سياسي. فتصوروا مثلاً أن «حماس» تعترض وتهاجم موقف السلطة بخصوص الذهاب لمجلس الأمن، في الوقت الذي تشن إسرائيل ومن معها هجومهم على السلطة لمنعها من هذا التوجه بالحديد والمال، فهموني دخيل عينكم.
واضح أن الموقف الإسرائيلي سيبالغ في التهديد والوعيد وعدم الاكتراث في المجتمع الدولي لمنع الفلسطينيين من الانضمام لمحكمة الجنايات، لكنني أتفق مع الرأي القائل إن التحرك الفلسطيني نحو مجلس الأمن ومحكمة الجنايات قد يؤثر في تغيير قواعد اللعبة وإحداث انعطاف ولو جزئياً في نظرة المجتمع الدولي لأهمية وكيفية الحل السياسي لقضيتنا الفلسطينية.
ومع كل هذا الصلف السياسي والاحتلالي المؤلم، وجبال العنف والكراهية التي راكمها الاحتلال حد العنصرية والشوفينية، فإنني كنت ولا زلت أعتقد وبإيمان راسخ، أن حل الدولة الفلسطينية آتٍ من تحت الرماد وهذا الدمار والتصعيد العدواني العنصري الظالم، بصرف النظر إن جاء هذا الحل على خلفية توافق مصالحي دولي، أم على خلفية تفاهم سلام ثنائي عربي إسرائيلي، أو كلا البعدين معاً، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنه برغم كل هذا العويل والضجيج والوعيد الإسرائيلي الذي تمارسه حكومة الاحتلال، إلا أن غلاة التطرف ذاتهم يدركون هذه الحقيقة وأنه لا خلاص لهم ولا لنا من دون التفاهم والتراضي في الحقوق ومراعاتها على نحو جدلي متبادل، ذلك كله لا يخرج عن نطاق وسياج المصالح الدولية في المنطقة، التي ظلت إسرائيل على الدوام تشكل جزءاً مكوناً وحيوياً من مصالحها والتزاماتها، والدولة الفلسطينية ستبقى صعبة المنال قبل أن يرى المجتمع الدولي وإسرائيل ذاتها، مصلحة لهم في قيامها، وهو الأمر الذي دعونا له دائماً بضرورة التنبه لأهمية خلق المصالح البناءة والمتوازنة مع كل الأطراف دون استثناء ولا انتقاء وليس هدمها أو منع قيامها. وتأكدوا أن نقطة توازن المصالح مع الجميع هي بيضة القبان والنُّطفَة التي سينمو من خلالها ويكبر جَنين الدولَة الفلسطينية وميلادها المجيد.
asefqazmouz@gmail.com