تاريخ النشر: 10 كانون الثاني 2015


دفاتر الأيام
طنجة ـ البرّ الأول
الكاتب: وليد أبو بكر

حرمني الثلج من أن أكون في طنجة لأول مرة، لحضور «المناظرة الوطنية حول الثقافة المغربية»، التي تعمل على توحيد اتحادات الكتاب المغاربية، وتكرم بعض الأدباء العرب. وكنت أتطلع إلى لقاء المدينة التي أحبها دون أن تقع عيناي عليها مباشرة، إلا من البرّ الثاني، البرّ الإسباني، والبحر المجاور له، قريبا من جبل طارق، أقرب حافَة من أوروبا نحو إفريقيا، غير مرّة، وخلال زيارات لا أملها لأندلس كانت فردوسا عربيا ذات زمن قديم، فأضاعها ما يشبه الخلافات التي تتناسخ هذه الأيام، وتُضيع فراديس كثيرة.
ورغم أنني زرت معظم مدن المغرب العربي، التي أحبها، وأشمّ فيها رائحة بلادي، وسط الطبيعة ووسط الناس، وترددت عليها مرات لا أحصيها، وعايشت ثقافتها من داخلها، حياة وكتابة، إلا أن طنجة ذاتها لم يحالفني الحظ في أن تكون طريقي، مع أنني كثيرا ما تمنيت أن تكون، ومع أنني أستطيع أن أزعم أنني أعرفها، أسوارا وأسواقا وامتداد شواطئ، ومطاعم من كل نكهة، ووجوها من كل لون أو لغة. كما أعرف عن مستوى الثقافة فيها، إذ تنتج «سدس إنتاج المغرب من الطباعة والنشر، كما تعدّ (...) من أكبر المراكز الثقافية في إفريقيا، حيث يوجد بها العديد من قاعات الفنون والمسارح والموسيقى والمتاحف والجمعيات الثقافية الشهيرة. كما ينتسب إليها بعض الشعراء والكتاب والممثلين والفنانين المشهورين. (وقد) أدى أغنياء المدينة دورا مهما في دعم النشاط الثقافي (فيها، تماما كما يفعل أغنياؤنا!)، كما كان لوجود جوّ التعبير الحرّ والعديد من شركات الإعلان والاتصال إسهام كبير في ازدهار الثقافة في المدينة».
تكونت معرفتي للمدينة من خلال من عرفت، من أهلها، وممن يحبّونها، ومن خلال ما قرأت أو سمعت أو شاهدت، ممن عايشوها من الشعراء والكتاب والمسرحيين، إلى حدود الذوبان فيها، عربا كانوا أو غير عرب. ولعلّ مثلا واحدا في هذا الشأن يكفي، حين أتحدَث عن عاشقها الأشهر، وكاتبها الأشهر، الذي سهرت معه الليالي، حتى قبل أن يكون اسمه معروفا لغير الخاصة (وكان أصدر مجموعته «مجنون الورد» عن دار الآداب ببيروت).
وقد اطلعت ـ في الدار البيضاء، قبل 35 عاما ـ على ما كان مخطوطا أول معرفتي الشخصية بكاتبه، وهو مؤلفه الذي جعله واحدا من أشهر الكتاب العرب، ومن أبرزهم ـ دون تبجح أو ادعاء ـ تجاه الخارج، بعد أن نشر مترجما إلى الفرنسية أولا (بتأثير الطاهر بن جلون)، ثم إلى لغات أخرى، ثم نشره الكاتب بنصّه العربي على حسابه، فأصبح واحدا من أكثر الكتب العربية انتشارا خلال فترة قصيرة، وصار صاحبه نجما، سطع كثيرا خلال وجوده في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، بعد أن كتب «الشطّار»، ببضع سنوات، لأنه كان الأكثر صدقا في كتابته، ولأن الصدق لا يخيب لصاحبه ظنا.
أتحدث بالطبع عن الكاتب العربيّ المغربي، الصديق القديم محمد شكري، الذي فقدته الكتابة العربية ـ وهو في قمة العطاء ـ قبل أكثر من عقد من الزمان، وعن كتابه «الخبز الحافي»، الذي أدهش من حوله ما رأه منه. وقد عرضنا (أوائل ثمانينيات القرن الماضي) على معلّم جيلنا، صاحب دار الآداب د. سهيل إدريس بنشره (حين كنا معا في الرباط)، لكنه اعتذر، وقد وجد فيه خروجا على ما التزمت به داره ومجلته من حدود، رغم ما أبداه من إعجاب نقدي صريح، بصدق الكتاب وببراعة كاتبه.
كنت أتذكر محمد شكري، وتعود إليّ صورته في ومضات، وطريقته في الحديث، وحركات وجهه ويده، التي لا تحمل كأسا، وأنا أقرأ آخر ما كتبه بهاء الدين الطود عن طنجة، وكنت أتذكره وأنا أقرأ ثلاثية الزبير بن بوشتي المسرحية «أوطيل طنجة»، وفوق ذلك ما كتبه صديقه محمد خير الدين، الكاتب والشاعر الذي يعدّه الفرنسيون واحدا من الشعراء الكبار بلغتهم، بعد أن عاش في فرنسا كثيرا، وتعرّف على أوساطها الثقافية، ونال جوائزها، وجاء كتابه «يوميات سرير المرض»، بصدق نادر، وكأنه يستعير طريقة شكري، وهو يقول فيه كل شيء بوضوح، عن نفسه وعن الناس الذين عرفهم، ثمّ ودّع الدنيا قبل شكري بثماني سنوات. وفي تقديم المترجم عبد الرحيم حزل للكتاب الذي نشر بعد رحيل صاحبه بسنوات قال: «أهمية هذا النصّ من صدوره من «محتضر» يناوش الموت ليحفظ للكلمة طاقتها على مساءلة الآخرين، ومراجعة الذات مصداقا للاعتقاد أن المحتضر يرى حياته كتابا، يتصفحه في لمح البصر».
خير الدين، المحتضر الصادق، وصف صديقه شكري بأنه «الكاتب الذي خبر أقسى التجارب والمآسي، وعاش حياته لا تقيّده قيود»، وأخذ عليه أنه قرر أن «ينقطع عن الشرب»، بسبب تحذير الأطباء الألمان، فكان «شجاعا، قوي العزيمة... ذلك هو حبّ الحياة والحرص على الاستمرار في الكتابة».
حب الحياة أنتج الكتابة: وكانت الحياة القاسية والتجارب وتحطيم القيود والكتابة من خلال ذلك، في مدينة تقبل هذا التمرّد، في الحياة فيها، والكتابة عنها، هي طنجة. وقراءة شكري، بكل صدقه، هي قراءة لهذه المدينة الفريدة، التي كانت دولية فعرف العالم سماتها، وظلت كما هي، يسعى إليها كبار مثقفي العالم (وعن بعضهم كتب شكري)، ويستلهم واقعها آخرون، كان من بينهم كويلو في أفضل ما يمكن أن يحترم مما كتب: رواية «الخيميائي». لذلك أشعر بأن الثلج حرمني من أن أفتح الأحضان وأنا أحتضن طنجة بشوق الحبيب، وأظل أنتظر اللقاء؛ أما التكريم فأعرف أنه لن يضيع الذين أقروه، وهو في رعايتهم كأنه وصل.