تاريخ النشر: 09 كانون الثاني 2015


آراء
عن «شارلي إيبدو» والانتصار لحرية الفكر
الكاتب: محمد ياغي


الجريمة التي ارتكبها مجموعة من "القتلة" ضد صحافيي ورسامي صحيفة "شارلي إيبدو" في فرنسا تستدعي التوقف لسببين: الأول لأنها تريد أن تُخرس كل رأي مخالف لأفكار من يسمون أنفسهم زوراً بالجهاديين، والثاني لأنها تفرض علينا، نحن الكتاب، أن نوضح للجمهور أن "الحركات الإسلامية" على اختلاف توجهاتها هي حركات سياسية أولاً وأخيراً وهي بالتالي لا تستطيع وليس من حقها أن تفرض فهمها الخاص بالإسلام على الناس.
شارلي إيبدو، ليست صحيفة واسعة الانتشار، بحسب تقرير أعدته "نيويورك تايمز" الصحيفة توزع أسبوعياً 30 ألف نسخة، تعاني من ضائقة مالية فرضت على إدارتها أن توجه نداءً للجمهور لدعمها حتى تتمكن من الاستمرار في العمل. الصحيفة من النوع الساخر، وكانت قد تأسست العام 1970 رداً على إغلاق صحيفة "هاري كيري" التي سخرت من موت الزعيم الفرنسي شارل ديغول. اسم الصحيفة مقتبس من صحيفة مماثلة موجودة في أميركا تحمل اسم "شارلي براون." الصحيفة متخصصة في النقد بجميع أنواعه، تسخر من السياسيين ومن أجهزة الدولة وسياساتها وتسخر أيضا من الأديان. الرسوم الساخرة والمسيئة التي نشرتها العام 2011 عن الإسلام، عادت ونشرت غيرها عن المسيحية. الأسبوع الماضي فقط مثلاً طرحت موضوعاً للنقاش بطريقة ساخرة عن المسيح إن كان وجوده حقيقة أم مجرد وهم.
في الغرب، باستثناء العقل البشري لا توجد قدسية لشيء وقتل رسامي الكارتون في شارلي إيبدو، أو المئات غيرهم، لن يغير طريقة التفكير التي يمارسها الناس هنالك لأنها باختصار شديد جزء من هويتهم الثقافية أو مما يمكن تسميته بنمط حياتهم التي اعتادوا عليها. لكن ما هو مهم في تقديري، هو أن عملية القتل، هدفها ليس إخراس الأصوات "الغربية" فقط وهذه لا يمكن "إخراسها" بطبيعة الحال بسبب حرية الرأي المكفولة بدساتير يعود أعمار بعضها الى أكثر من مائتي عام كما هو حال أميركا مثلا، ولكن لأنها تهدف أيضا لإخافة الكتاب والمفكرين العرب أنفسهم.
كرفانات المذابح الجماعية التي يتخللها "قطع للرؤوس" و"قتل بالحجارة" و"تفجير لساحات عامة ومساجد" هي جزء من الصورة التي يريد أن يرسخها هؤلاء في ذهن كل من يختلف معهم. كانوا في السابق حاولوا قتل الأديب نجيب محفوظ وقتلوا فرج فودة في مصر، وحسين مروة ومهدي عامل في لبنان.
الصمت على ما يقوم به هؤلاء ونشر أخبارهم وشرائطهم دون التذكير بأن هؤلاء مجرد عصابات مجرمة، كما تفعل بعض وكالات الإعلام والفضائيات هو مشاركة في جرائمهم، والأسوأ هو قيام بعض وسائل الإعلام العربية بتصوير هؤلاء على أنهم "ثوار" وليسوا قتلة.
القوى التي ترد على "الظلم" بآخر أبشع منه، ليست قوى بديلة يجب الاحتفاء بها وتأييدها.. هي قوى مجرمة يجب إدانتها ومهاجمتها بنفس اللغة والقدر التي يتم فيها مهاجمة أعدائها. لذلك لا تشكل "دولة الخلافة" أو "تنظيم النصرة" أو"أحرار الشام" وغيرها من الأسماء "المبتذلة" بدائل للأنظمة في سورية والعراق.. هي على الأكثر عصابات تريد إخضاع شعبي البلدين للاستعباد. هم أحد أسباب بقاء الأنظمة المستبدة في مكانها لأن الناس إذا خُيرت بين "مجرم" يريدهم الابتعاد عن السياسة ويعاقبهم فقط إذا اقتربوا منها وبين "مجرم آخر" يريد قتلهم إذا اختلفوا مع شريعته الخاصة، هم قطعا سيفضلون الخيار الأول لأنه لا يحرمهم من الحق في الحياة طالما كانوا بعيداً عن السياسة.
لا أحد يطالب المفكرين والكتاب والإعلاميين بالوقوف مع نظام ضد آخر، لكن لا يجب إظهار الحياد في معركة الدفاع عن حرية الرأي والتفكير والمعتقد. إذا لم ننتصر لهذه الحريات، فلا توجد قيمة لما نقول أو نكتب. وهذه المسألة تحديداً مرتبطة بالهدف الثاني لهذا المقال وهو أن علينا أن نكون صادقين ومباشرين في وصف ظاهرة ما يُعرف بالإسلام السياسي.
الإسلام السياسي أو ظاهرة الأسلمة السياسية تطلق اليوم على كل مجموعة تهدف الى الوصول الى الحكم سواء بالقتل المباشر كما تفعل "القاعدة" وأخواتها أو عن طريق صندوق الاقتراع كما يفعل الإخوان. بعض هذه الجماعات على استعداد للتداول السلمي للسلطة مثل الإخوان وبعضها فاشي، دموي، لا يقبل الآخر ويسعى للقضاء عليه. الطرف الأول هو صاحب مشروع يريد تنفيذه بعد حصوله على موافقة الناس عليه ومن خلال عملية تنافسية مفتوحه للجميع. الطرف الثاني يريد تنفيذ مشروعه بالإكراه عبر "قطع الرؤوس". الطرفان يدعيان أن مصدر رؤيتيهما هو الإسلام، وهذا لا يجب أن يعنينا أو يدفعنا للخلط بينهما كتيارات سياسية وبين الدين الإسلامي نفسه.
اليوم، ليس فقط كل جماعة إسلامية لها فهمها الخاص للدين، ولكن أيضاً كل شخص في العالم العربي له فهم مختلف عن غيرة للدين. الناس اليوم أكثر تعليماً، وأكثر انفتاحاً على المعرفة بسبب تطور التكنولوجيا وسهولة الحصول على المعلومات وتعدد مصادرها. وهي لذلك لم تعد تقبل بأن يفرض عليها أحد أو جماعة فهمها الخاص للدين. لذلك يجب التعامل مع التنظيمات التي تدعي بأن الدين الإسلامي هو مرجعيتها من زاوية سياسية بحتة. من يقبل بالتداول السلمي للسلطة وبحرية التعبير والرأي والمعتقد هو حليف للقوى التي ترغب في إعادة بناء بلادها التي أنهكها الاستبداد والظلم ومن لا يرغب بذلك هو جزء من القوى التي يجب محاربتها بلا تردد أو خجل.