تاريخ النشر: 09 كانون الثاني 2015


آراء
حتى أنتِ يا هدى؟!!
الكاتب: هاني عوكل


كثرت الأسماء الأنثوية للعواصف والأعاصير التي اجتاحت أصقاع العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وآخرها العاصفة الثلجية "هدى" التي حلت ضيفاً غير مرحب به على بعض دول الشرق الأوسط والتي تتمتع بإمكانيات طوارئ ضعيفة وبنى تحتية متواضعة.
الموجة الباردة "هدى" أصابت في رياحها الشديدة وثلوجها كلا من الأردن ولبنان ومصر وسورية وفلسطين المحتلة، وكان الله في عون هذه الدول التي تعاني من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية غير مستقرة، خصوصاً سورية الخاضعة لنزاع عسكري مسلح اقترب من الأربعة أعوام.
القلق الأكبر من "هدى" على المناطق التي لا تمتلك مؤهلات تجعلها تتجاوز هذه المحنة المؤقتة، ونخص بالذكر هنا قطاع غزة الذي يبكي المرء على حاله، ذلك أن القطاع شهد في شهر تموز الماضي عدواناً إسرائيلياً بشعاً أعاد غزة إلى الوراء عشرات السنين.
لقد عانى قطاع غزة على الدوام من عدوانات إسرائيلية شرسة ومتكررة دمرت وأجهزت على بنيته التحتية الضعيفة في الأساس، وشلت من قدرته على توفير متطلبات الحياة الكريمة للناس، فبالإضافة إلى الموبقات الإسرائيلية وعنجهيتها ضد القطاع، فإن الحصار الخانق على غزة لما يزيد على الثمانية أعوام، جعل من هذه المنطقة منكوبة بامتياز.
الحديث لا يقتصر فحسب على الحصار وسياسة تجويع وتركيع الشعب الفلسطيني، إنما يتعلق الأمر أيضاً بالإدارة الفلسطينية الخاطئة للبلاد والعباد، ذلك أن طموح السلطة الفلسطينية كان في تأسيس سنغافورة ثانية، لكن الفساد الذي استشرى في عدد من مؤسسات السلطة آنذاك، انعكس على ضعف البنية التحتية للقطاع.
بطبيعة الحال لا يمكن إغفال مجموعة من العوامل التي أسهمت بشكل أو بآخر في إضعاف بنية قطاع غزة ككل، فإذا سلمنا بأن الاحتلال هو المتسبب الرئيسي في إفشال غزة واعتبارها نموذجاً للجوع والفقر والأمراض، فإن الوضع الداخلي الفلسطيني أسهم هو الآخر بإفشال نموذج مستقر وآمن لغزة.
صحيح أن القطاع يتعرض لحصار يستنزف من قدرته على الصمود، وكل هذا ينعكس على جلود الناس وعلى ممارستهم لأبسط متطلبات الحياة، لكن الاقتتال الفصائلي أضعف البنية التحتية الفلسطينية ككل، ولا يقتصر الأمر على الخدمات وشبكات الطرق والمياه... إلخ، وإنما  يتعدى الى البشر والإنسان الذي يعتبر ركناً أساسياً في عملية التنمية المستدامة.
فساد السلطة طوال سنوات، مضافا إليه سوء الإدارة الحالية لقطاع غزة وفساد آخر من تحت الطاولة لا يدري فيه أحد، كل هذا يعجل من سقوط غزة في براثن الفقر والتخلف والأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فصائل الخلاف التي اتفقت على تشكيل حكومة وفاق وطني، على خلفية مغادرة الانقسام والتمهيد لمرحلة جديدة من الشراكة والبناء، لم تتمكن من التوافق في معالجة مشكلاتها، الأمر الذي انعكس على النفسية المتدهورة للمواطن الفلسطيني وعلى الوضع في القطاع.
غزة المنكوبة التي انتكبت أكثر جراء العدوان الإسرائيلي الأخير عليها، لم تستطع لملمة جراحها، وكان يفترض أن يتم الشروع في إعمار القطاع، لكن تلكؤات كثيرة دخلت على هذا الخط، من بينها عدم التوافق الفلسطيني على الشروع فوراً في عملية الإعمار.
ما وصل من الأموال التي رصدت لإعمار غزة لا تتجاوز 2% حسب موقع "روسيا اليوم"، إلى جانب تبادل الاتهامات بين كل من حركتي "حماس" و"فتح" والسلطة الفلسطينية حول عرقلة عملية الإعمار التي يفترض أن تسير وفق آلية برعاية الأمم المتحدة.
والحقيقة أن القيادة الفلسطينية هي من يتحمل مسؤولية فشل إعمار غزة، ويشمل هذا بطبيعة الحال السلطة الفلسطينية التي تدير شؤون الضفة الغربية، وأيضاً حركة "حماس" التي ما تزال تدير قطاع غزة، ذلك أن حكومة التوافق الوطني لا حول ولا قوة لها من كل ما يجري على أرض الواقع.
حكومة التوافق تهتدي بقرارات الرئيس محمود عباس، وتعمل على الأرض بناءً على التسهيلات الممنوحة لها، سواء أكان ذلك في غزة أم في الضفة الغربية، لكن حين تواصل "حماس" استفرادها في إدارة شؤون القطاع دون أن تترك هذه الوظيفة لحكومة التوافق فإنها بذلك تتحمل جزءا من المسؤولية.
نعم فصائل الخلاف هي أساس المشكلة، وبسبب الانقسام لم نستفد من العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ذلك أنه جرى تجميد المفاوضات برعاية مصر، ولم يكن من الممكن استثمار صمود الشعب الفلسطيني من وراء هذا العدوان طالما ظل الانقسام الداخلي حاضراً.
الآن هناك آلاف العائلات المشردة والموزعة على مناطق مختلفة، وعدد كبير من ابنائها يبيت في مدارس غير مهيأة لاستقبالهم لأشهر طويلة، ومنهم من يبيت في العراء ويأوي في خيمة من المرجح أن تقتلعها الزائرة الثقيلة "هدى".
مع ذلك فإن الفلسطينيين هم أكثر تضامناً وولاءً لبعضهم البعض، وتجدهم مساعدين ومرحبين بالعمل الاجتماعي ويمارسون المسؤولية الاجتماعية بكل حب ونخوة ورجولة، عكس فصائل الصراع والقيادات التي لا يهمها سوى مصالحها الضيقة وكسب تأييد أزلامها وحبايبها ومناصريها.
كل بيت فلسطيني أعطى إما شهيداً أو جريحاً أو أسيراً وحتى منزلاً مدمراً بشكل كلي أو جزئي في سبيل الوطن ومن أجل الصمود، ومع ذلك لا يجد المردود من قبل القيادات الفلسطينية، ومطلوب منه أن يكابر على جراحه وأن يتحمل جوعه وفقره وحصاره من أجل وعود كاذبة.
ينبغي على كل مسؤول فلسطيني الإحساس بالمسؤولية وحالة الكرب والضنك التي يعيشها الفلسطينيون، خصوصاً وأنهم يواجهون الآن أزمة كهرباء صعبة وغير آدمية، وشحاً في وقود الطاقة الذي يمدهم بحياة آمنة، وحصارا يثقل جيوبهم وأدمغتهم من كثرة التفكير بالضيق والألم والحسرة.
ينبغي على المسؤول أن يشعر بهؤلاء وأن يوفر الحد الأدنى لمتطلبات حياة صحية ومعقولة، فهل يمكن الحديث عن مقاومة وصمود وطني والشعب تعبان وفقير ويتألم من قلة الاهتمام به وبسبب إدارة الظهر لأبسط شؤونه الداخلية.
غزة بهذه الطريقة يصعب حالها على الكافر، وإذا ظلت كذلك فإنها قنبلة موقوتة ستنفجر في وجه الجميع، لأنه إلى هذه اللحظة لم يتم حل أي مشكلة لا في الكهرباء ولا معالجة أسباب الانقسام ولا البطالة أو تخفيف الحصار.
حتى "هدى" لم يسلم منها الفلسطينيون الذين يتعرضون للكمات قوية من كل حدب وصوب، وأعان الله الناس في قابل الأيام على عاصفة تهلكهم وتزيدهم بؤساً وإرهاقاً، كما هو حال الاحتلال والحصار والانقسام اللعين.
Hokal79@hotmail.com