تاريخ النشر: 28 كانون الأول 2014


دفاتر الأيام
عباد يحيى «القسم 14»، انطباعات أولى من المكان المحدد: رام الله، إلى المكان المجرد : صحراء
الكاتب: عادل الأسطة

«القسم 14» (ط1، 2014) هي رواية الكاتب الفلسطيني الشاب، حامل درجة البكالوريوس والماجستير من جامعة بيرزيت، والمقيم حالياً، فيما أعرف، في قطر.
وهي روايته الثانية، فقد صدرت له في العام 2013 روايته الأولى «رام الله الشقراء» التي أثارت، في حينه، ضجة كبيرة، واستقبلت نقدياً استقبالاً لافتاً، لا أظن أن رواية فلسطينية، هنا في الأرض المحتلة، استقبلت مثله، بعد رواية أميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974).
في رام الله الشقراء كتب عباد يحيى عن مكان يعرفه ويألفه جيداً، وقد عاش فيه سنوات عديدة، ودرس في جامعته القريبة من المدينة التي برز اسمها في عنوان الرواية، وأما في «القسم 14» فلم يكتب عن مكان أقام فيه وخبر تفاصيله، كما خبر تفاصيل رام الله.
كل ما في الأمر أنه التقى أربع ساعات، في صالة مطار، بالعقيد الشخصية المحورية في الرواية، وأصغى إليه وأعطاه المعلومات وزوده بها، فكانت الرواية التي يعد مكون المكان مكوناً رئيساً من مكونات العنوان فيها، بل هو المكون الوحيد.
هذا يعني أن عباد لم يعرف المكان الذي يكتب عنه، ولم يزره حتى زيارة عابرة، ولم يتشمم هواءه، ولم يتلمس حيطانه وجدرانه، ولم يعرف مكاتبه و.. و.. و.. ولم يحتك برواده وزواره العابرين غالباً.
تنتهي الرواية التي تقع في 160 صفحة، وتتكون من خمسة عشر مقطعاً بست صفحات أدرجت تحت عنوان «أول الأمر» يخبرنا فيها المؤلف عن لقائه بالعقيد، وتعيدنا هذه الصفحات إلى الإهداء الذي نصه: « إلى أسباب أربع ساعات في المطار إياه».
العقيد هو مواطن عربي، في دولة عربية غير محددة، فيها قوات أميركية، تقيم معسكراً في الصحراء يتسع لمائة وعشرين عنصراً من عناصر الجيش الأميركي، يأتون إليه ليتدربوا على قمع المتظاهرين، ولا بد لهم من تفريغ طاقتهم الجنسية في هذه الأثناء، وهكذا تجلب الفتيات لهم، وعلى أي من هؤلاء ألا يقيم علاقة دائمة وثابتة مع أية فتاة، وألاّ يدلي بأية معلومات عنه، ولهذا توزع الفتيات على الغرف توزيعاً تلقائياً، ويجب أن يستبدلن دائماً.
واللجنة المشتركة الأميركية تختار العقيد العربي ليكون مشرفاً على المعسكر، لما تمتع به من التزام، ويوافق على مهمته هذه، بعد أن يكون في البداية استكثر الأمر، لأنه رأى فيه ضرباً من البغاء والقوادة، غير أن الضابط الأميركي يقنعه بغير ما ذهب إليه ظنه، وأن الأمر، في النهاية، هو خدمة للواقع.
يصدر عباد يحيى روايته بالسطرين التاليين لـ (بنتاليون بانتوخا) «إنني بحاجة إلى من يوجهون لي الأوامر، فمن دونهم لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، وينهار العالم من حولي»، والأوامر في الرواية، من الضابط الأميركي، ومن اللجنة المشتركة، تكون دائماً للعقيد الذي يقترب من التقاعد، ويصر في النهاية عليه، فقد استكثر أن يظل في القسم 14 من عام ونصف. إنه يذهب إلى التقاعد، وهو هنا يختلف عن بطل رواية (ماركيز) «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، وإن كانت فكرة التقاعد للعقيد ولغيره، تحتل جزءاً من تفكيره، بل إن أسلوب سرد عباد يحيى يذكرنا، تذكيراً ربما بلا وعي، بأسلوب سرد (ماركيز).
العقيد في «القسم 14» وحيد في المعسكر، بعيد عن زوجته وابنه، فهما يقيمان في أثينا ـ المكان الذي حدد في الرواية ـ ويراقب العناصر، من خلال الشاشات، حتى يتم كل شيء على ما يرام، وحتى لا تحدث مشاكل بين العناصر والفتيات. إنه يراقب سلوكهم/هن معاً، كأنه يشاهد أفلام بورنو مشاهدة مباشرة/ حقيقية/ بث مباشر.
أقرّ، ابتداء، بأنني تصفحت الرواية، وبالتالي فإنني لا أريد تحليل شخصياتها: الضابط، العقيد، المقدم، تحليلاً نفسانياً أو حتى تحليلاً أدبياً، ولا أرمي أيضاً إلى الكتابة عن المكان واللغة والزمان، فهذا ما لم يلفت نظري أصلاً.
أقر بما سبق، ولكني أود تدوين انطباعات أولى عن الرواية التي جاءت مغايرة لرواية الكاتب الأولى، ولا أدري إن كانت ستستقبل الاستقبال نفسه للرواية الأولى «رام الله الشقراء».
العقيد الذي يختار لإدارة المعسكر، وسيكتشف لاحقاً أنه ليس سوى مدير فقط، وتستوقفه هذه اللفظة حين ينطق بها الضابط الأميركي، العقيد يبدأ بجمع المعلومات عن الجيش والترفيه عن العناصر الذي يعد في ثقافته هو بغاء، لا مجرد ترفيه، كما يعتبره الضابط الأميركي.
وهكذا يورد في هوامشه معلومات عن الموضوع، استخلصها من الشبكة العنكبوتية. ويمكن قراءة الصفحات 24ـ33 للتساؤل إن كان العقيد حقاً هو من فعل هذا أم أن من فعل هذا هو المؤلف نفسه، الذي يقف، في هذا الجانب، وراء العقيد، ويختفي خلفه، ليقول لنا ما قرأه عن المجتمع الأميركي؟
في الصفحات الوارد ذكرها نقرأ معلومات عن المجتمع الأميركي والجيش الأميركي وما تقوم به القيادة للترفيه عن جنودها في أماكن الحروب، وأعتقد جازماً أن هذا جزء لما يريد الروائي إيصاله للقارئ، إلى جانب أن دولنا الخليجية التي تستضيف قواعد أميركية، تحولت إلى قواعد بغاء، وصمت حكامها كما صمت العقيد ووافق على أوامر الضابط، لأنهم، في النهاية، لا يستطيعون إلاّ تلقي الأوامر وتنفيذها.
أعود وأكرر: إن ما قام به العقيد من جمع معلومات عن وجود الجيش الأميركي في أماكن القتال، خارج أميركا، وما تفعله القيادة الأميركية لعناصرها هناك، هو ما قام به المؤلف الذي أراد إبراز هذه الصورة لأميركا ولكيفية تعاملها في البلدان التي يكون لها فيها قواعد عسكرية، وخنوع الدول المستقلة للقواعد، وتنفيذها للأوامر، وهنا أعود إلى التصدير وأذكر به: «إنني بحاجة إلى من يوجهون لي الأوامر، فمن دونهم لا أدري ماذا عليّ أن افعل، وينهار العالم من حولي»، وستنهار تلك الدول من دون من يوجهون الأوامر لها، ومن دون من يوجهون لها قوات حماية.
ويحيى عباد الذي يقيم، الآن، في إحدى هذه الدول، لا يصرح باسم تلك الدولة، ولربما هنا سأله بعض الفلسطينيين: ولماذا صرحت باسم رام الله، وكتبت عنها ما كتبت؟ أتراك تخاف من الترحيل من الدولة النفطية؟
وأنا أقرأ الرواية ذكرني أسلوب السرد فيها بأسلوب سرد (غابرييل غارسيا ماركيز)، هذا بالإضافة إلى أن شخصية العقيد ذكرتني بشخصية الكولونيل، ولكن ما تذكرته أكثر، وأنا أقرأ الصفحات الست الأخيرة من الرواية هو رواية «ترمي بشرر» للكاتب السعودي عبده خال الفائزة بجائزة بوكر للعام 2010. فهل كانت هذه الرواية من قراءات عباد يحيى، وهل مثلت أمامه وهو يكتب روايته؟
هناك أشياء مشتركة عديدة، في البناء العام، بين الروايتين؛ هناك القصر ويقابله القسم 14، وهناك حفلات الترفيه، وهناك السرية التي يجب أن يتمتع بها من دخل المكان، وهناك عقاب من يفشي الأسرار، ولكن الأهم من كل ما سبق هو نهاية الروايتين: في المطار يلتقي بطل القصة بالكاتب، ويقص عليه ما جرى معه، ليبدأ الكاتب بتأليف روايته التي يرويها بطل الرواية.
حين كتب عباد يحيى روايته الأولى «رام الله الشقراء» كان عمله مفاجأة لقراء الأرض المحتلة، وقد أثير حوله جدل كبير، واستضيف في أكثر من مدينة ليتحدث عن تجربته.
ببساطة كانت روايته الأولى رواية كاتب امتلأ بالمكان وسكانه وما يجري بينهم.
 لقد خرج من الحياة إلى الورق فاستقبلته الحياة وناسها، وأشك في أن «القسم 14» ستحظى بما حظيت به «رام الله الشقراء».
لقد خرجت من الكتب، وآمل ألاّ تظل على رفوف المكتبات، وهذه مجرد انطباعات!! انطباعات أولى.