إنها المقالة التي اختارتني لأنهي بها العام، فهي الأكثر شبهاً بالنساء الفلسطينيات. إنها عن المرأة في بلدي التي تتحول إلى شاهدة أو شهيدة، وللمرأة التي تسطِّر حروفها وتطوِّعها لتعبِّر عما يختلج في أعماقها كضحية جديدة، لها وعنها وهي تراقب حركة النعوش إلى قبورها، لها وعنها وهي تخلع كل يوم ورقة من روزنامة ليل بلا نهاية.
كانت مجموعة من شهادات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، من القدس وغزة والخليل ونابلس، شهادات وضعتنا أمام تجارب النساء الفاقدات والأسيرات والمهجرات المدمرة بيوتهن. شهادات بحجم وطن كامل لم يعد بقادر على تسجيل المزيد من الانتهاكات، شهادات عن الغريب الذي يقتحم الذاكرة ويقيم فيها، ويعمل بهدوء على تشكليها بقوة لا سبيل لمحوها أو الخلاص منها.
"خطفوه وأسقوه البنزين وحرقوه". قالت جملتها وتَحَسْبَنَت.. سعت الأم الشابة إلى ترتيب أفكارها. لكنها لم تكن تمتلك حرفة السيطرة على الحروف الرافضة بإباء تقديم فروض الطاعة، لم تكن تعرف من أين تبدأ وإلى أين ستنتهي. كانت تتجول بين رماد فتاها وكلماتها المحروقة، تحاول عبثا تجنب فرش مشاعرها حفاظا على تماسكها، جاهدة من أجل تحييد قلبها عن لسانها، فقدمت شهادة مختصرة، فالنيران بعد أن التهمت ولدها قامت بحصار لسانها.
مشهد خاص ترسمه شهادات غزة، فالنساء هناك يتوسدن الخوف ويستنشقن العنف. وحديث غزة دائماً يدور حول همّ يذهب... وهمّ مجهول يتربص، عن احتضار المستقبل وانتحار الأمنيات في كل يوم. "أتمنى أن تتوقف عقارب الساعة" قالت إحداهن.. بينما صرخت أخرى، "لم يكن لدي ترف اقتلاع الشوك عن قدمي، فالصواريخ كانت تلحقنا من بيت الى بيت".. تحدثن عن نعمة النسيان، "أن أنسى فحسب، لا أريد مصافحة ذاكرتي"، وختمن شهاداتهن: "ليس من جديد في شهاداتنا والجديد يدور حول الوحدة، وجديدنا أن حالنا لم يعد يثير اهتمام أحد حتى الضحايا القادمين.. الجديد ان شعورنا بالغربة والفراغ بلا حدود".
"الأرض والحجر والأنعام والخيام وأوتادها تقاوم". هكذا افتتحت السيدة من "سوسية" شهادتها. كانت تخبئ الكثير تحت لسانها، وحضّرت نفسها لشهادة نوعية جازمة أن معظمنا لا يدري شيئا عن بلدتها ومكانها واسمها وواقعها، حيث المكان الذي يهرب منه حتى الشيطان. "بلدتي التي يعيش فيها أربعمائة وستون نفراً يعيشون على نتاج الحيوانات، نعيش في الخيام بين مستوطنة وحشية وكنيس يتوسّع، الكل يتآمر على خيامنا المسكينة، المستوطنة والكنيس والمناخ، والثلاثي يتحالف على اقتلاعنا من جذورنا". كانت المرأة تروي قصة قريتها الصغيرة كالكهل المثقل بالأمراض المستعصية.
"هذا ما يسمى بحفل الاستقبال، تقييد الأيدي والأرجل وتكميم العيون". شهادة الأسيرة مشبّعة بتجارب جميع الأسيرات، وكلماتها تتدافع وتتنافس للإمساك بجميع الخيوط والدروس والعبر. تحدثت عن الكوابيس التي لا تنتهي بالخروج من المعتقل، "لا زلت أعيش الأمس لأنني لا أستطيع مغادرته". وكأنها أرادت مساءلتنا: هل من قيمة للمعاني التي أرسمها على الحائط، وهل من رجاء في تأريخ الليل الطويل..
من القدس استمعنا إلى شهادة مختلفة، كانت شهادة مغمسة بالثورة، إنها ثورة البحث عن الحرية وإرادة العيش والمستقبل الأفضل. كانت تتحدث بشغف عن مسلسل هدم بيتها، وعن إصرارها على إعادة بنائه من جديد "فالبيت سترة واستقرار وتعليم وحب وحنان"..كانت تحمل ثورة في قلبها، "أنا امرأة ثائرة، وأتحمل وأصبر جدا، وعندما آخذ قراراً لا شيء يمنعني عنه، لكن الاحتلال أيضا هدم "الكرفان" الذي وضعته على الركام"..، أنا أتوجع بلا أمل، ويؤلمني أكثر من تفتيت بيتي التقاط الصور على أنقاضه قبل المغادرة"! تحدثت بأناقة، بينما جرحها يشق طريقه نحو مكامن الألم ويزداد نزفاً.
في مختصر الكلام، ما العمل بعد أن استمعنا ووثقنا وسجلنا وأخذنا علماً ببعض ما أتاحه كبرياء النسوة، ما العمل ونحن نعرف أن ما لم يأتين على ذكره أكبر، وأن أسئلة من عيار ثقيل بقيت تتردد بعد انفضاضنا: هل من حكمة في لفظ بعض الوجع أو ترميم الكلمات المبتورة أمام كاميرا عابرة، وهل من نهاية للعمر الذي يمر ببطء على نفس المحطات، وهل يمكننا النظر جيداً في المرآة، لنرى انعكاس صورتنا إن لم نفعل شيئاً لتغيير المشهد..