لتتحدث كتب التاريخ كما الأساطير القديمة وكذا كتب الأديان المقدسة بإسهاب عن الوسائل العديدة التي اخترعها الإنسان، الأقوياء في الواقع كما الآلهة لتعذيب أناس آخرين. هذه الوسائل الجهنمية ولكن المبتكرة في كل مرة في تنوعها على مدى الأزمان، وسائل تقشعر في زماننا الأبدان من ذكرها من قطع للألسنة وفقء للعيون والحرق او الكي بالنار إلى الجلد بالسياط وإلقاء الضحايا للوحوش الكاسرة، وصولا إلى اللسع بالكهرباء والشبح كما الإيهام بالغرق.
ولكن ما يستشف من كل هذا التاريخ المكلل بالسواد وليس من المفضل ذكره، ليس ان السلطات في كل العصور والأزمان لم تكن تعرف الرحمة أو الشفقة، أو انها في غضون زمن اقل تنويرا كانت على شاكلة آلهتها في قربها من الوحشية، ولكن في حقيقة ان هذا التعذيب كان في البدء يستهدف التنكيل بالجسد، وكان ينتهي غالبا بالصلب او بالقتل وقطع الرؤوس للتخلص من الأسرى او المعارضين. اما اليوم وفي أزماننا المتأخرة والأكثر حداثة تحت لائحة ميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، فإنه يستهدف التنكيل بالروح الآدمية والنفس الإنسانية، حين يبدو لنا واضحاً هذا التزامن الفظ من ان إنشاء السجون التي نعرفها قد ترافق تاريخياً مع إنشاء المصحات العقلية والنفسية، وذلك مع تكوّن الدولة الحديثة على اعتبار أن المعارضين هم كالمرضى النفسيين يجب القاؤهم في معازل بعيدة عن المجتمع.
فقط في حالات الانتقام او غريزة الدم والثأر، فإن إشفاء هذه الغرائز لن يتأتى الا عبر التنكيل بالجسد بل والتمثيل بالجثث، وحتى نبش القبور. أما في حالة الردع وحتى الصراع الطبقي والاحتلال فإن التنكيل هنا يستهدف إهانة الروح والنفس او الكرامة الإنسانية على وجه التحديد. ان التعذيب هنا يترافق مع الحط من قيمة الأفكار والمعتقدات والثقافة التي يتبناها المناضلون والثوار في هذه الحالة، الذين يناضلون من اجل حرية شعوبهم، والرسالة هنا المراد إيصالها هي تحطيم الروح المعنوية وإقناع الشعب الخاضع للاحتلال، بأن محاولته فاشلة.
وهكذا اذ يبدو في هذا الوضع كما لو انه يتم التخلي عن القتل المباشر كما أشكال التعذيب الوحشية والبدائية الأُخرى، فإن هذا ليس الا تصورا مخادعا ومضللا لأن ما يحدث في الواقع هو استبدال القتل المعجل بالقتل البطيء لأسرى يحكمون لمدد لا نهائية داخل هذه السجون، والبعض منهم يعزلون في زنازين انفرادية، ليصار خلال هذه المحكوميات الطويلة الانتقام من الجسد والروح معاً. والرسالة هنا هي قوة الانتقام من الجسد والروح معا لمن هم خارج السجن.
ان الاحتلال الإسرائيلي لا يمثل في التاريخ آخر الاحتلال في سياق الحقبة الاستعمارية الحديثة، ولكنه يمثل اليوم المصفاة التاريخية التي تجتمع فيها عصارة كل الأوساخ التي يمكن معرفتها من خبرات وتجارب هذا الاستعمار. وان هذه الشمولية المكثفة انما تبرز كل وحشيتها في التعامل مع الاسرى الفلسطينيين. حروب غزة الثلاثة وهدم بيوت الفلسطينيين المقدسيين مثال حاضر اليوم.
ولا يختلف الجلادون في كل العصور والأزمنة عن أقرانهم الآخرين الا في المظهر والشكل وربما الظروف التي يؤدون فيها أدوارهم تحت ضغوطها، فهم الممثلون الفعليون لأشد أدوات السلطة غلظة وقسوة، وهم يؤدون هذا العمل كأنما بشكل أصم ومجرد عن أية مشاعر او عاطفة إنسانية، ولذا فإنهم غالبا ما تختارهم السلطات للعمل في هذه العوالم السرية والسوداء، لبنيانهم الجسدي كما خشونة طباعهم وأخلاقهم وأمزجتهم القاسية التي تشبه غلظة أبدانهم.
انهم الجلادون انفسهم سواء كانوا في عصور اكثر اظلاما أو يمارسون هذا الدور في ظل الحكم العسكري الفاشي للجنرال بينوشيت، او السلطات الاستبدادية والشمولية التوتاليتارية التي يتحدث عنها جورج أوريل في روايته الشهيرة 1984، ونجيب محفوظ في «الكرنك» او حتى حكم الليبرالية المقنعة كما في عهد جورج بوش الابن. فهم دوماً «الرجل العقرب» او الثعبان الرهيب لويثان الذين يرد ذكرهم في ملحمة التكوين البابلي باعتبارهم اشد أسلحة الام الشريرة تعامة في التصدي لقمع ثورة أبنائها الآلهة.
ولكن مع استثناء في طبيعة الحالة السائدة اليوم داخل أقبية السجون والمعتقلات الإسرائيلية، اقتران هذا الوضع باحتلال ذي طبيعة عنصرية وإحلالية تهدف الى إقصاء واستئصال الشعب عن ارضه. هنا أول ما يتبدى من مظهر الجلاد هو قوامه الجسدي التي يختزل مظهراً اكثر تضخماً واعتداداً بالقوة، هي قوة المنظومة الأمنية والعسكرية التي تبرز حقائقها في هذه المواجهة او الاشتباك بين المعتقل والجلاد، كما في ميدان القتال والاشتباك الفعلي المتعددة وسائله وأدواته في الصراع بين الشعب المحتل والاحتلال.
في هذا الإطار وضمن هذا الحيز التاريخي فإنهم لا يخفون هذا الاعتداد بالقوة الذي يدعونه يتسرب خفية، لم يتسرب خفية الى ضحاياهم دون التعبير عنه مباشرة بفظاظة. انهم غالباً رجال في عقد الثلاثين او اكبر يجيدون التحدث معك بالعربية العامية بطريقة تتقصد منذ البداية إشعارك بأنهم على دراية تامة بالبيئة الاجتماعية وحتى العائلية كآلهة الشر كليي القدرة والمعرفة، وبخلاف ما يحدث في المعتقلات العربية وباعتبار اليهودي متميزاً في كل شيء والمنتمي الى الديمقراطية وليبرالية الغرب، فإنه يتحدث معك في البداية بنعومة ولطف ولكنه يدعك تدرك انه يحمل في اليد الأُخرى العصا الغليظة. او هكذا يبدو الأمر في حالة منخفضة الأهمية للضحية الذي يتم استجوابه، كما كان في سنوات الاحتلال الأولى حين كان دايان على رأس وزارة الحرب وآباء حزب العمل يحرصون حتى ذلك الوقت لدوافع سياسية ماكرة، على إخفاء الوجه القبيح للاحتلال وفق نظرية دايان عن الاحتلال غير «المرئي» او المخملي. وذلك قبل ان يستفحل مرض الاحتلال وتحوله كما في أيامنا هذه الى نزع هذه القفازات الحريرية وتحوله الى اشد صور الاحتلال فاشية.
لقد اتخذوا لهم أسماء تنكرية على غرار الألقاب الحركية للفدائيين الأوائل وآباء المقاومة الفلسطينية، وهكذا اسموا انفسهم بأبو فلان وابو فلان. وكان من الشائع في ذلك الوقت ان يعيدوا تمثيلية المحقق الطيب والمحقق الشرير، وان يستعرضوا درايتهم بنحو لا يخلو من الحداقة ببعض العبارات التي تتردد في أحاديثنا ويكون لها وقع خاص. من قبيل «احكي لنا القصة من طقطق للسلام عليكم «، او انت لست الزنبرك الحركي للتنظيم فتحدث. وهذه العبارة الأخيرة هي التي كان يرددها على مسامعي في كل مرة المحقق الذي يمثل معي دور الرجل الطيب، حين يظهر فجأة في كل مرة لتخليصي من لكمات وضربات المحقق الشرير. «انت لست الزنبرك الحركي للتنظيم « قل ما تعرفه وكلها ستة اشهر وتخرج من هنا.
والواقع انني لم اكن بالفعل لا الزنبرك الحركي للتنظيم ولا عضواً قام بأي فعل يذكر في غضون هذه الفترة الوجيزة التي قضيتها عضواً في التنظيم، ولكن في أعقاب ثلاثة أسابيع قضيتها في الزنازين خلال فترة التحقيق، فأنه بدلا من ستة شهور حكمت ثمانية عشر شهراً أي ستة شهور مضروبة بثلاثة، وأوقف اخي عن وظيفته في التعليم كعقاب للعائلة.
ولكن ما يتبقى بعد أربعين عاما من ذكرى هذه التجربة الأليمة في غرف التحقيق والزنازين والدرج الفاصل بينهما، ليس طيفاً غابراً يأتي به الخاطر من بعيد، بل صوراً من كوابيس تظل تلاحقنا في الأحلام حتى سنوات طويلة، حتى بعد ان نغادر المكان. تماما مثلما هي الصور والأصوات التي لا زالت الى الآن تلاحق حفيدتي هدلاء الطفلة الصغيرة من القصف الوحشي في الحرب الأخيرة على غزة، حينما تسمع صوت مواتير الكهرباء او رعد الشتاء. وتلاحقني كهلا في سماع ترددات صداها تخترق جدار الصمت في رأسي ليس في الحلم هذه المرة ولكن في ذروة الصحو والإدراك. وللحديث بقية لأيضا.