إذا كان شعب تونس قد فتح الطريق قبل اربع سنوات على صفحة بدأ الجميع يسمونها ثورات الربيع العربي، قبل أن ترهق المفكرين والكتّاب في توصيف ما يجري من احداث، فإنه يصر على أن يختم العام، بنموذج ينسجم مع البدايات التي دشنها البوعزيزي.
اربع سنوات مرت على ثورة الياسمين، ظل خلالها الشعب التونسي في حالة حراك دائم لا يتوقف عن الفعل، ليقدم للعالم العربي نموذجاً في الاصرار على التغيير، وفي جدوى الكفاح السلمي المتحضر، ونموذجا في قوة الارادة الشعبية حين تستند الى الحق في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
تونس انجزت المرحلة الانتقالية بعد مخاض لم يكن عسيراً قياساً بما يجري عند أخواتها العربيات، ولا هو عسير قياسا بمضامين ثورة شعبية ذات طابع تاريخي، يتطلع التونسيون الى ان تنقلهم من دائرة التهميش والفقر، وقمع الحريات الى مستقبل مشرق يعدهم بما هو افضل. لبعض الوقت بدا للكثيرين أن تونس لا تختلف كثيرا عن بعض اخواتها العربيات، اللواتي، شهدن على ارتفاع اسهم الاسلام السياسي، الذي يحظى بشعبية واسعة، ويحصل على اكثر المقاعد في الانتخابات البرلمانية، وكان ذلك مدعاة لخوف مستحكم من قبل فئات شعبية اخرى من ان ينتهي الأمر الى استبداد من نوع آخر للاستبداد الذي قصدت وعملت الجماهير الشعبية على تغييره.
ومثلما قدم الشعب التونسي نموذجاً في الاصرار على التغيير، وحماية الدم، والتوجه الصارم نحو بناء مستقبل واعد، كانت حركة النهضة المحسوبة على الاخوان المسلمين تقدم هي الأخرى نموذجاً مختلفاً، يقدم هذا الفريق من الاسلام السياسي على غير ما يعرفه الناس عن الفرق الاسلامية الاخرى.
منذ البداية حرصت حركة النهضة على ان تستلهم مشاعر الشعب التونسي وان تصيغ تجربتها بعيداً عن الهيمنة والاحتكار والاقصاء، فآثرت وهي تملك اغلبية مقاعد المجلس التأسيسي على ان تدخل في شراكة مع حزبين آخرين، وان تتقاسم معهما المسؤوليات الاولى في البلاد فكانت الرئاسة من نصيب المنصف المرزوقي، الذي خاض معركة الرئاسة وحصل خلالها على اكثر من ٤٤٪ من الاصوات.
حركة النهضة قدمت تنازلات، واظهرت قدراً عالياً من المرونة، التي تتبدد مخاوف الجميع، وتجعلها جزءاً اساسيا وفاعلا من النسيج الاجتماعي، والوطني والسياسي، وطرحت أفكارا تشكل قناعات متقدمة عن الكثير من فرق الجماعات الإسلامية التي تنتمي اليها.
ربما لاحظنا نحن الفلسطينيين مدى أهمية النصائح والآراء والمواقف التي أبداها زعيم النهضة راشد الغنوشي لحركة حماس، وكان لها تأثيرها على رؤية الحركة، هذه الرؤية التي لا تزال قيد التبلور ولم تستقر بعد.
النموذج الذي يقدمه الشعب التونسي، بداية ولاحقاً، يشكل مصدر إلهام، للشعوب العربية التواقة للتخلص من الاستبداد والظلم والقمع، لا شك سيكون له تأثيراته على الحراك المضطرب الذي يجتاح العديد من الدول العربية.
من المهم النظر بعمق لهذا النموذج، وللنموذج الذي تقدمه حركة النهضة التونسية، التي تشكل أفكارها، المدعومة بممارسات ملموسة ملهماً، لجماعات الاخوان، وجماعات الإسلام السياسي عموماً حتى لا تكون المنطقة امام صراع كسر عظم بين المشروع الإسلامي والمشاريع الوطنية والقومية.
نقول ذلك ونحن مضطرون لأن نقارن بين افكار وسلوك حركة النهضة، التي تساهم في حماية الوطن وفي المساهمة الفعالة في عملية البناء، وبين فرق اخرى تنتمي الى الفكر الإسلامي، لا تزال تدفع أثماناً باهظة، وتدفع الشعوب أثماناً باهظة.
بعض هذه النماذج من الفرق، ذهبت الى استخدام السلاح والعنف والدم، لتحقيق عمليات تغيير، قسرية، ما كانت لتؤدي الى تحقيق الأهداف بقدر ما انها تؤدي الى تهديد الأوطان وتعريضها لشتى التدخلات والمخططات الأجنبية.
فرق أخرى، أنشأت ميليشيات، وراحت هي الأخرى تستخدم العنف حتى بعد أن وقع التغيير في النظام الاستبدادي كما هو الحال في ليبيا، ما يؤدي الى تعطيل العملية الديمقراطية والسياسية ويهدد بتفسخ النسيج الاجتماعي ويعرض البلد الى الانقسامات والتدخلات الأجنبية.
وبالقرب منا نموذج آخر، حيث آثرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الاستفراد بالسلطة، وفرض رؤيتها الإسلامية على النظام وإقصاء الآخر، كل الآخر، الأمر الذي أدى الى قيام ثورة شعبية تصحيحية بعد وقت قصير من تسلمها الحكم، ثم تابعت عمليات الخلخلة للوضع الداخلي، بأمل استعادة ما يسمونه الشرعية.
في الحقيقة، فإن ما تعيشه الساحة المصرية لا يعدو كونه عملية تخريب للمجتمع والاقتصاد، وتأخير وتعطيل لانتقال مصر الى مرحلة بناء مستقبلها واستعادة دورها، اذ من غير المحتمل ان يؤدي ذلك الى تحقيق ما يرغب الاخوان في تحقيقه. لا يوجد ما يبرر العنف الداخلي طالما ان هناك فرصة للحوار، وتوفير الطاقات، وهو ما يقدمه نموذج ثورة الياسمين، التي تقدم نفسها لكل من أراد الاستفادة، ولكل من أخلص لقضايا الجماهير.