كل اتجاه سياسي يستطيع تقديم الأدلة الكثيرة على أخطاء الاتجاهات السياسية الأخرى ولاصوابية مواقفها وتكتيكاتها، وكل اتجاه سياسي لا يستطيع في الوقت ذاته إقناع مواطنيه بصوابية مواقفه وسياساته. بعبارة أخرى عندما لا تستطيع السلطة ولا المعارضة تقديم الحلول والإجابة على الأسئلة التي يطرحها الواقع، فإن الحال المأزوم سيبقى مأزوماً الى زمن بعيد، بانتظار حلول خارجية. هل افتقدت الحركة السياسية ديناميكيات التطور من داخلها؟
افتراضياً، الوضع الفلسطيني المأزوم بحاجة الى اتجاه سياسي يستطيع ان يشكل قوة جذب مقنعة لأكثرية الشعب من اجل إشراكها والاعتماد عليها في اتباع مواقف وسياسات ومبادرات وطنية والدفاع عنها والعمل على ترجمتها. اتجاه يستطيع بلورة الحد الأدنى المشترك المسمى البرنامج الوطني الذي ينطلق من المصلحة الوطنية العليا للشعب، ومن العقد الوطني الاجتماعي الناظم لعمل كل القوى السياسية. والذي يستطيع إدماج التنظيمات والقوى داخله فيما يشبه جبهة متحدة بأسلوب ديمقراطي.
إذا انتقلنا الى الرؤية المباشرة، فإن حركة فتح وتنظيمات أخرى في منظمة التحرير دخلت في مسار (اوسلو) السياسي او تعايشت معه، أدى الى تعميق الاحتلال والاستيطان وما أفضى إليه من نظام الفصل العنصري والاحتكار الحصري لفلسطين وتاريخها القديم والحديث في صيغة الدولة اليهودية الحصرية. ولما كان الاستمرار في مسار اوسلو سيقود الى تصفية القضية الوطنية وانتحار فتح والمنظمة سياسياً، فإن الخروج منه والبحث عن مسار آخر هو المخرج الوحيد للكارثة الجديدة التي ستحل بالشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. ان توقف المفاوضات يعد أمراً إيجابياً، لكن عدم الخروج من مسار أوسلو والاكتفاء بوقف المفاوضات لا يغير من الحال شيئاً. ذلك ان الفترات الطويلة التي توقفت فيها المفاوضات لم تغير من حقيقة ان هذا المسار كان يفعل فعله من طرف واحد. كان يدمر مقومات الحل السياسي والدولة الفلسطينية على الأرض ويشيد بنية الفصل العنصري على الأرض، لهذا فإن الخروج من هذا المسار مسؤولية فتح والمنظمة والمعارضة وكل الشعب الفلسطيني.
مسؤولية مشتركة، نظراً لوجود مصلحة مشتركة، ولأن الانسحاب من شبكة العلاقات التي تأسست طوال عقدين وأكثر وتحكمت في بنائها سلطات الاحتلال وقوى التدخل الخارجي، يحتاج الى جهد مختلف القوى السياسية والى الشعب. هذه الشبكة اعتمدتها قوى اوسلو التي قامت ببناء مؤسسات وأجهزة ومشاريع بالاستناد الى الدعم المالي لأقطاب العملية السياسية وبالاستناد لموافقات دولة الاحتلال. وبدلا من رفع نسبة الاعتماد على الذات تدريجيا ومحاولة توليد وتطوير الموارد من داخل المجتمع وبوضع خطط تنمية متواترة بالاعتماد على رأسمال وطني منتج وعلى الدعم غير المشروط. عوضاً عن ذلك تعمق الاعتماد على الدعم الخارجي وعلى سياسة الريع واقتصاد السوق الحر، وتوسع البناء البيروقراطي غير المنتج والذي تحول تدريجيا الى عبء على السلطة والمنظمة. وترافق ذلك مع خلط مؤسسات المنظمة وتنظيماتها وبخاصة تنظيم فتح بالسلطة وموازناتها، أصبحت المنظمة وحركة فتح التي نقلت مقراتها ومؤتمراتها الى الاراضي المحتلة تحت رحمة دولة الاحتلال. لم تستطيع حركة فتح اتباع سياسة مستقلة عن السلطة ولم تمارس دور الرقابة والمحاسبة والنقد والمعارضة لكل التدخلات الخارجية. كانت معارضتها باهتة وغير مؤثرة وشكلية أحياناً ولم تكن بمستوى تصويب السلطة المحسوبة عليها. السبب يعود الى خلط فتح بالسلطة وأجهزتها الإدارية والأمنية، والى ضعف الاستقلال المالي والاعتماد على الذات. الشيء نفسه ينطبق على منظمة التحرير التي لم تتعامل مع احتمال النضال من الخارج مرة أخرى. أصبحت المنظمة تحت رحمة الاحتلال وإجراءاته وضغوطه.
بدورها، القوى المعارضة لأوسلو وبخاصة بعد دخول حركة حماس الى النظام ذاته. لم تستشرف الخطر الناجم عن مسار اوسلو في كل المراحل. ذلك ان استشراف الخطر كان سيقود الى بناء شبكة علاقات وبنية تستطيع ان تكون البديل في لحظة التوقف والتراجع. قد يقول البعض ان حركة حماس كان لديها بنية وشبكة علاقات بديلة. نعم صحيح، عملت حماس بشكل مزدوج، فمن جهة دخلت شبكة علاقات اوسلو وقيدت نفسها بها، ومن جهة اخرى أوجدت شبكة علاقات خاصة بها داخليا وخارجيا وليس شبكة للوضع العام برمته. وعندما عطل التدخل الخارجي شبكة علاقات أوسلو إبان صعود حماس للسلطة، بدت حماس كسلطة مسؤولة عن تنظيمها وأنصاره فقط وليست مسؤولة عن شعب وحركة سياسية، وثبت ان شبكة علاقاتها الداخلية والخارجية لم تبن كبديل لشبكة اوسلو بل نافست على الاستئثار بالشبكة ذاتها. وحتى عندما فرضت سلطتها في قطاع غزة كانت تعتمد على بنية اوسلو بأكثر من 50% من موازنة سلطة اوسلو. وعندما دمرت الأنفاق وتوقف الدعم الإيراني وأُحكم عليها الحصار، وقفت عاجزة وتكشفت حقيقة ان مشروعها السياسي يفتقد الى مقومات اساسية وكبيرة. واكبر دليل على ذلك مواقفها غير المتزنة والمتخبطة الراهنة، كاللعب بورقة دحلان وخلافه مع فتح، والهرولة نحو طهران، والتلويح بمغامرات قد تجلب الويلات للشعب في قطاع غزة، وعدم مراجعة دورها في العلاقة مع النظام المصري التي دفع ثمنها الشعب في قطاع غزة. القوى اليسارية المعارضة لاوسلو بدورها والمشاركة في سلطته، اكتفت بالرفض السياسي ولم تُقدم على بناء بديل قابل للتطوير والبناء.
هذه اللوحة تكشف عدم الاستعداد العملي والافتقاد الى مقومات الحد الادنى للخروج من مسار اوسلو والدخول في مسار الخلاص الفعلي من الاحتلال. عدم الاستعداد يقود الى موقفين سلبيين الأول: الانسحاب المرتجل وغير المنظم الذي قد يقود الى الانهيار وفي هذه الحالة فإن دولة الاحتلال بالتعاون مع حلفائها سيملؤون الفراغ السياسي وتقديم وكلاء للاحتلال مع الاحتفاظ بالمسؤولية عن الامن من بعيد. اي ان سلطات الاحتلال في اغلب التقديرات لن تعود كما كانت قبل اوسلو. الموقف الثاني: بقاء الأوضاع على حالها واتباع خطوات رمزية لا ترقى الى مستوى الخروج من المسار والدخول في مسار جديد. الموقفان يخدمان دولة الاحتلال ويؤديان الى استمرار تفكك الوضع الفلسطيني ما لم يتم بناء مقومات المسار الوطني المستقل بأسرع وقت ممكن.
Mohanned_t@yahoo.com