يحيلنا السمع إلى البصر، فما الإنسان إلا هُما معاً! وعنهما يسأل الإنسان والفؤاد، وبهم يحاول الإجابة!
إبداعيّ هو عنوان المؤتمر الدولي نحو حياة موسيقية منفتحة ومتنوعة الذي عقد في مدينة بيت لحم، منفتح على تجارب الآخرين في توظيف الموسيقى، ومتنوع في داخل هذا التوظيف، وفي ظل الانفتاح والتنوع هناك الجامع الإنساني.
تقودنا الموسيقى إلى الفنون، وإلى التعليم، وإلى المجتمع بما يضطرب فيه من هموم واهتمامات وقضايا باتجاه السلم الاجتماعي، كما تقودنا إلى الهوية والتراث عنصرها الأساسي، ويقود إلى التعاون الدولي الإيجابي، تقودنا الموسيقى دوما بمنطلقات إنسانية نبيلة نحو السمو ومشاركة الآخرين مشاعرهم.
والمتابع للفنون الموسيقية والغنائية بشكل عام وبرنامج الموسيقى للجميع في فلسطين وغيرها من الدول التي تطبقه بشكل خاص، يدرك أن المؤتمر يمثّل تتويجا للجهود القائمة والسابقة لذلك، فهو منبر لتبادل الخبرات ومشاركة التجارب، كما يذكرنا بمؤتمرين: الأول دولي عقد عام 1999، والثاني وطني عقد بعد عامين، قاما بعملية توصيف لما كان قائماً، واستكشفا ما سيأتي أيضا، ووضعا النهوض الموسيقي هدفا نبيلا، بدءا بالمدرسة.
لقد تناول المؤتمر الدولي (والذي أعتبره الثالث) عدة محاور، بدءاً بالتربية والتعليم، مروراً بالموسيقى المجتمعية والتعاون الدولي وانتهاء بالتراث، ورأينا وسمعنا كيف يتعامل كل أناس بدلوهم.
الإدماج في التربية والتعليم، كان المحور الأول. وهو ربما الهدف الأبرز لبرنامج الموسيقى للجميع، الذي يقصد إلى خلق ثقافة في المجتمع عن طريق التعليم الذي يصل إلى الأطفال، ومنه نصل إليهم جميعا.
"عمل الموسيقيين في مجال التربية يمنح العاملين استكشاف عالم جديد من الإبداع، حيث يتمكن الأطفال والبالغون من الإبحار فيه واستكشاف قدرات الموسيقى في قطاعات الحياة"، هذا المستخلص للفنان سعيد مراد المدير الفني في مؤسسة صابرين للتطوير الفني، حيث لم يكن ليظهر لولا تجارب الموسيقيين مع الطلبة والمعلمين والمشرفين والعاملين في النشاطات والإشراف التربوي. فالموسيقى إبداع، كما إن اشتراك هذه الأطراف الفنية-التربوية هو إبداع آخر، يتجلى تربويا في التعليم، أما في الفن فإنه يأتي بأفكار جديدة للفنانين.
لقد فتحت إذن "التجربة الصابرينية" المجال لإحداث تغيير في الأنظمة والإجراءات، مثيرة تساؤلات حول كيفية إسهام الموسيقى في البيئة التعلمية النوعية؛ حيث تدعم وزارة التربية والتعليم العالي وجود الموسيقى كمكون من مكونات التعليم الجامع، كما رأى د. بصري صالح وكيل الوزارة لشؤون التطوير.
منذ سنوات وهذا البرنامج يجمع وزارة التربية والتعليم العالي ووكالة الغوث ومدارس البطريركية اللاتينية، حيث أمكننا التعرّف عن قرب عليه، من خلال وجوده في نشاطات الطلبة، داخل المدارس عن طريق العروض الموسيقية التي تجمع التجربة الوطنية والدولية، النرويج خصوصا، ومن خلال النوادي الموسيقية، وتدريبات المعلمين بأسلوب يراعي التخصص الموسيقي من عدمه، وكنا نقطف الثمار كل ربيع من خلال مهرجانات المديريات والمهرجان المركزي، كأجمل ما يكون النشاط الموسيقي، من غناء وطني وتراثي وعربي وإيقاع خاص.
وقد تطور نوعيا، من خلال إشراك مشرفي المرحلة (من الأول حتى الرابع) الذين تم تدريبهم، لضمان تعليم موسيقى مقبول، حيث يتم استخدامها لتحفيز التعليم التكاملي، على أمل أن تصبح جزءا من الحياة اليومية للطالب، كما يؤمن بذلك الخبير والفنان عودة ترجمان.
إذن ثمة اتجاه في تعليم الموسيقى باتجاه أن تكون متضمنة في البنية التربوية، والتي من الممكن مستقبلا تطويرها لتصبح مادة كباقي المواد.
المحوران الثاني والثالث كانا الموسيقى داخل المجتمع والتعاون الوطني والدولي، وقد جمعتهما معا، كون الأول أسس للثاني، والعكس صحيح.
ثمة علاقة إبداعية بينهما.
الموسيقى داخل المجتمع: استخدم النرويجي توم جرافلي مدير القسم الدولي في المعهد النرويجي للعروض الموسيقية ريكونسيرتنة، الموسيقى كأداة لمكافحة العنصرية بين الطلبة في المدارس النرويجية، مساهمة في بناء الوطن والمؤسسات ودعم التعبير الثقافي لدى الأقليات من خلال أشكال مختلفة من التعاون الموسيقي طويل الأمد مع الدول الصديقة. وقد شاهدت ذلك بنفسي حين زرت النرويج، حيث تم عرض موسيقى من خارج النرويج للطلبة، والذين بينهم طلبة مهاجرون، فوفقا لجرافيلي فإن تعرّض الطلبة لهذه العروض قد خفف العنصرية، حيث يعيد الأطفال النظر في علاقاتهم مع أطفال القوميات الوافدة، ومع الاستمتاع الموسيقي، فإن القلوب تأتلف وتتحاب.
في سياق الموسيقى المجتمعية فقد عمل د. فيل مولن من كلية جولد سميث، جامعة لندن، وهو أحد روادها في العالم، على استخدام الموسيقى مع أشخاص يعانون العزلة الاجتماعية بمن فيهم المشردون والجانحون وكبار السن، وهو الذي تخصص في العمل مع الأطفال المنبوذين والشباب المعرضين للخطر، كما قضى 8 سنوات في العمل في إيرلندا الشمالية في استخدام الموسيقى كأداة لتحقيق السلام والتوافق. وأمكنه ذلك أن ينتج أدبيات هامة، حيث شارك فيل في تأليف كتاب "الوصول" حول التربية الموسيقية للأطفال والشباب الذين يصعب الوصول إليهم؛ فمن وجهة نظر الموسيقيين المجتمعيين، فإن لكل فرد الحق في إنتاج الموسيقى الخاصة به والإبداع فيها والاستمتاع بها. وعلى المجتمع تشجيع الموسيقى للجميع.
تجربة د. أرنثاثي سري رنجاناثان من جامعة الفنون المرئية والأدائية في كولومبو، بسيريلنكا، تضاف لتلك التجربتين الدوليتين، حيث تركز د. رنجاناثان على الموسيقى كمساهم في عملية السلام والتوافق في ذلك البلد.
أما استخلاصها الذي تشاركنا به فهو "أن الموسيقى تعتبر من أفضل الطرق لبناء الجسور بين الأشخاص من ذوي أعراق واديان وقوميات مختلفة، حيث أن إدماج الموسيقى يعزز الاحترام والفهم المتبادل، وبالتالي يجنّب المجتمعات متعددة الثقافات التمييز والصراع العنصري". لذلك كان أسلوب التعليم يركّز على اللحن وليس على اللغة.
أما تجربة د. دونالد دي فيتو مدير قسم الموسيقى والتربية الخاصة، في كلية سيدني لانيير، بالولايات المتحدة، فقامت على "تنمية التربية الموسيقية لدى الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة"، وهي دفع أكاديمي وفني يقوم على دمج ذوي الحاجات الخاصة بالمجتمع، من خلال الدمج الموسيقي نفسه.
آخر هذه التجارب الوافدة كانت تجربة الفنانة جوليانا فروزوني من البرازيل، من خلال برنامج جوري للتربية الموسيقية، والذي من خلاله يحظى الأطفال والشباب ومعظمهم ممن يعانون التهميش بإمكانيات غير مقيدة في الموسيقى، تساعدهم في توسيع آفاقهم على المستوى الشخصي والاجتماعي والمجتمعي، كما يعمل على توفير تربية موسيقية ودمج ثقافي اجتماعي لآلاف الطلبة، حيث يتم الدمج بين التربية الموسيقية والتدخل الاجتماعي، بهدف تحسين أوضاعهم.
فلسطينيا، عرضت تجربة الكمنجاتي، "الموسيقى كأداة للتغيير الاجتماعي" من خلال الفنان إياد ستيتي، حيث قامت هذه المؤسسة على نشر الموسيقى بين الأطفال الأقل حظا كأطفال المخيمات والمناطق النائية، إضافة لأطفال الأسر محدودة الدخل في المدن، خصوصا في ظل وجود مؤسسات موسيقية تتطلب نفقات لا تقوى عليها هذه الأسر. وقد كنا نودّ لو تم التعريج على أسلوب ومنهج الكمنجاتي في تعليم العزف والغناء إضافة إلى الجانب النظري، وكيف يتم دمج الطلبة في العروض.
كما عرض الفنان عودة ترجمان والذي أسس مؤسسة تعنى بالتنمية المجتمعية من خلال الفنون، لما للفنون من قدرات التأثير، والاتصال وتنمية الفكر والشعور، وهذا شرط الاتصال بالفئات المختلفة داخل المجتمع.
ثمة علاقة إبداعية بين الموسيقى المجتمعية والتعاون الدولي. كيف؟
للمعهد الموسيقي ريكونسيرتنة شراكة فنية مع مؤسسات موسيقية في بلدان متعددة، خلق فضاءات للحوار وتبادل الخبرات بين الفنانين من تلك البلاد، فقام من خلال هذا التعاون على تقديم عروض دولية داخل النرويج، وخارجها، بمشاركة نرويجية، فحقق هدف النرويجيين باستخدام تلك العروض الوافدة في عروض المدارس، ومنح الشعوب الأخرى فرصة التعارف من خلال الفن.
محور التراث
تجربتان وافدتان من إيرلندا والهند وثالثة من فلسطين.
المغنية الفولكلوية والعازفة د. ساندرا جويس مديرة الأكاديمية الإيرلندية العالمية للموسيقى والرقص، مهتمة ومتخصصة بالتراث والغناء الإيرلندي، والمصادر التاريخية للموسيقى التقليدية، من منطلق كون الموسيقى والغناء جزءا أساسيا وحيويا من الهوية.
تستخدم أساليب تعليمية إبداعية تدمج الأسلوب الأدائي بالمعرفة الأكاديمية، حيث تشكل عملية إدماج هذا التقليد الشفوي تحديات منها ما له علاقة بتاريخ إيرلندا ومفاهيم القومية الثقافية، التي كان لها حضور كبير منذ أواخر القرن التاسع عشر.
فالمنهج الإبداعي هناك يسعى لتأسيس بيئة ذات طابع تعليمي إبداعي مختلف للموسيقيين والمغنين التقليديين المرتبطين بها.
أما التجربة الهندية لراشملي ماليك فكانت عن مؤسسة سبيك ماكاي، في تعزيز الموسيقى الهندية الكلاسيكية والثقافة بين الشباب لصون التراث الهندي.
أما التجربة الفلسطينية فكانت للفنانة ميرا عازر، حول جمعية إطار تطوير الروح الثقافية لفلسطينيي عام 1948، وتعزيز هويتهم والحفاظ على ثقافتهم الموسيقية والفنية.
إن الاستماع لتلك التجارب وغيرها يسهم في تعميق النظرة نحو التراث الفلسطيني كتراث متعدد الثقافات ذي قدرة على استضافة وتمجيد التنوع.
لذلك فإن تعريف الموسيقى للجميع من خلال الاستغراق فيه، يصبح تعريفا عمليا واستراتيجيا، لذلك نسمع للفنان سعيد مراد وهو يصفه بأنه "برنامج يتمحور حول الدمج، وتطوير عملية التعلم والمهارات الإبداعية بشكل متكامل، وخلق مساحات للتعبير تتحدى الأوضاع السائدة والبنية التحتية الفقيرة، بتضافر بين صانعي السياسات والمعلمين والموسيقيين نحو واقع موسيقي عملي ومتوفر للجميع".
لقد جمع المؤتمر المهتمين بالتربية الموسيقية وموسيقى المجتمع أفرادا، أو فئات من المستوى المحلي وأُخرى من المستوى الوطني الاستراتيجي، بمثيلاتها من الدول المشاركة، لعلّها تكون فرصة للتطوير، والاستفادة من منجزات الآخرين، وأيضا إفادة وإعلام الوافدين بفنوننا وطرق تعاملنا مع الموسيقى والغناء في التربية والتعليم والمجتمع، وأهمية التراث لدينا في الحفاظ على الهوية.
إبداعيّ هو عنوان المؤتمر الدولي نحو حياة موسيقية منفتحة ومتنوعة الذي عقد في مدينة بيت لحم، والتي ما زالت بلد الميلاد للكثير من الإبداعات.
Ytahseen2001@yahoo.com