تاريخ النشر: 13 كانون الأول 2014


دفاتر الأيام
تـداعـيـات فـي الـلـغـة
الكاتب: وليد أبو بكر


كنت، قبل ثلاثين عاماً، كتبت دراسة موسعة عن "لغة الأدب ولغة الإعلام"، نشرت في عدد من الدوريات الأدبية، بعد أن قدمت في مؤتمر الأدباء العرب، في واحدة من أهمّ دوراته، في الجزائر. ومع أن مصادري الأساسية فيها كانت كتباً في فقه اللغة، و"اللغويات"، وعلوم الاتصال، إلا أن الاعتماد على "آراء حديثة" من نقاد مختلفين في مقارباتهم للموضوع، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية، جعلت الدراسة تثير شيئاً من الجدل، كان بعضه حاداً، لأن العقلية السائدة حينئذ (والتي تسود الآن بشكل أوسع) كانت تنظر إلى اللغة باعتبارها صيغة واحدة في الحالات كلها، وأن القدرة على التعبير بها، ربما بشكل بلاغي، هي التي تميز نصا عن آخر، إعلاميا كان أم أدبيا.
في محاولة لحفظ قليل جدا مما تفرّق بسبب توزع الأمكنة الذي يبلى به الفلسطيني، وعند عثوري على الدراسة الأصلية، بخطّ اليد، قمت بمراجعتها، بعد أن طبعت على الجهاز هذه المرة. بدوت كمن يقرأ نصا لا يعرفه، في مادة حدث ابتعاد عن التعامل معها، أو مع موضوعها،  لفترة طويلة. فاجأني أن المادة ما زالت قابلة للحياة حتى الآن، في معظم تفاصيلها، ربما باستثناء جزئية مبالغ فيها، حول الخوف من اعتماد العامية في السرد، أو في الإعلام، ربما أملاها ذلك التطرف ضد اللغة العربية، الذي مثلته في حينه، شخصيات كان لها وزنها الثقافي، مثل لويس عوض في مصر (الذي وقف العلامة محمود شاكر في مواجهته، في كتاب من جزأين، اسمه (أباطيل وأسمار)، ومثل سعيد عقل في لبنان، الذي وقف كثيرون في وجه دعواته، وعلى رأسهم سهيل إدريس، الذي صوره كشخصية مهزوزة في روايته (أصابعنا التي تحترق).
لكني شعرت، بعد الانتهاء من القراءة، واستغراب الطاقة على استخدام هذا العدد الهائل من الهوامش، بأن هناك ما استجد حول الموضوع، ما يحتاج إلى توسيع رؤية، لن أكون قادراً على القيام به، وإن كنت أجد أن الإشارة إليه قد تفيد، لا بالنسبة لمن هو معني بـ "اللغويات" وحسب، وإنما بالنسبة لمن يكتب، وخصوصاً في الأدب، ربما لأن الإعلام صار مطية من لا يعرفون فيه شيئاً، رغم تعدد كلياته، وتوسع وسائله، (وربما بسبب ذلك!)، فلم تعد هناك جدوى من قول كلمة في واقعه، بينما تبقى بين الذين يمارسون فعل الكتابة من يمكنه أن يرى، خصوصا ممن يتعاملون بجدية مطلقة مع اللغة، ولا يريدون تكسيرها، أو القفز عنها، وهم لا يتقنون شيئا منها.
شعرت، خلال القراءة، أنني وضعت كتابة الأدب في إطار لغة واحدة، أو صيغة لغوية واحدة، واكتشفت أن الأمر، ربما كان صحيحا في ذلك الزمن، الذي كان الشعر خلاله ما يزال يناقش صحة اعتماد التفعيلة بدلا من البيت، ومدى قدرة الصورة على تشكيل الوحدة داخل القصيدة الحديثة. ولم تكن قصيدة النثر قد فتحت أذرعها لكل من يظن نفسه قادرا على تركيب جملة، حتى وإن لم تكن مفيدة، وكان عدد الذين يمارسون الكتابة أقل بكثير جدا ممن يقرؤون، بعكس الوضع المقلوب الآن، الذي حول غالبية الناس إلى كتاب لا يقرؤون.
لم يعد الحرص على اللغة ضرورياً، بسبب الخوف من العامية، التي أرادتها بعض الدعوات ممزقة إلى لغات عدة، حسب لهجاتها، كما حدث في اللاتينية، فهي لم تعد قادرة على المنافسة، ولم تعد تجد من يتحمس لها كبديل، أو يعارض وظيفتها في الكتابة، حين تستخدم، رغم كل التشتت الحالي، والضعف القومي، وإنما بات الحرص يتركز، بشكل عام، على ضعف استخدام هذه اللغة، خصوصا بين "كتبة العصر"، الذين يطنون أنفسهم عباقرته، لا من ناحية قواعد اللغة الأساسية فقط، وإنما من ناحية القدرة على ترتيب الجمل، أو تركيبها، أو بنائها، بحيث تؤدي المعنى الذي في الذهن، لمن يكون في ذهنه معنى، هو الهدف من الكتابة.
وفي هذا السياق، وفي استعداد لكتابة شيء حول الرواية التاريخية، قرأت مقدمة لطبعة ثانية من ترجمة عربية (عن الأصل الإيطالي) لرواية عالمية شهيرة، قلدها معظم من كتبوا الرواية التاريخية بعدها. أفردت المقدمة جزءا منها للتشهير بمن سطا على الترجمة، في طبعة مختلفة، (مترجمة عن الفرنسية، سبق أن قرأتها، ولم تلفت نظري أخطاء عربية فيها)، أما المقدمة فلم تشر إلى أخطاء الترجمة التي تقدم لها، وهي أخطاء تسدّ النفس عن متابعة القراءة، لولا الاستعانة المتواصلة بالترجمة الإنجليزية للرواية، التي تخلو من مقدمة تتبجح.
الجديد الذي شعرت به في موضوع اللغة، لا يعني إلا الذين ينظرون إلى الكتابة كفعل إنساني، لا كوسيلة شهرة أو تكسب: وهو يؤكد على شيء أساسي، هو أن اللغة العربية، في أصلها، ترتيب واضح لأجزاء الجمل، فعلية كانت أم اسمية؛ وأن أي خروج عن هذا الترتيب، لا بدّ وأن يكون لضرورة، أو أن يكون له معنى بلاغي ما؛ وأن هذا الخروج (هو جواز فقط، لأسباب مدركة عند حدوثه)، ولا يصح أن يتحول إلى قاعدة تسود الكتابة كلها.
انطلاقا من هذه الفرضية، يمكن القول إن مثل هذا الخروج غالبا ما يكون للضرورة الشعرية، حين تريد أن تضبط الوزن، فتقدم جزءا من الجملة على جزء، أو حين تريد أن تعمق الصورة، فتقلب الترتيب. وفي هذه الصيغ، حين تأتي في مكانها، بلاغة محببة، بلغة النقاد القدامى، لكنها حين تتحول إلى "كلّ اللغة"، خصوصا في العمل السردي، فإنها تعيق عملية التوصيل.
إن جملة صلاح عبد الصبور الشعرية "تافها كنت، وكان الصحب أتفه" مقبولة، للضرورة، وتمنح الصورة جمالا صوتيا وصوريا، لكن أن تبدأ كل جملة في عمل سردي بتقديم خبر كان على الفعل، أو الحال على بقية الجملة، أو الخبر على المبتدأ، فإن ذلك يشكل نشازا كبيرا، لا تحتمله طاقة القارئ، حتى وإن شعر كاتبه بأنه "يجترح معجزات لغوية"، لأن "مستباحة هي الكتابة في بلادنا"، ليست أبلغ من "الكتابة في بلادنا مستباحة"، إلا عند من يستبيحون الكتابة، ويظنونها أدباً.
هذه الفكرة البسيطة أوحت بالفكرة الأوسع، التي تحتاج إلى دراسة: لم تعد لغة الأدب تختلف عن لغة الإعلام فقط، ولكن لغة الرواية لها سمات تختلف عن لغة الشعر، بكل تأكيد، وبمعنى أوسع، فإن الفكرة التي تحتاج إلى متابعة تقول: "إن اللغة التي تستخدم في كل نوع أدبي لها تكون خصوصيتها التي تميزها عن الكتابة في أي نوع آخر".