تاريخ النشر: 13 كانون الأول 2014


آراء
زياد أبو عين المناضل الذي يطلّ علينا من الزمن القديم
الكاتب: حسين حجازي


لم تتح لي الفرصة أن أعرفه عن قرب أو أن ألتقيه لكنني كنت أستمع إليه في أوقات متفاوتة متكلماً، والكلام هو أداة الفكر والتفكير والصوت، أصواتنا هي ادوات الكلام، ولكن وحدها فقط نبرة الصوت هي الإنسان. وكان سقراط الحكيم يخاطب تلاميذه قائلاً: «تكلم حتى أراك» اي حتى أعرفك، وبهذا المعنى استطيع القول إنني عرفته كما عرفه كل الفلسطينيين، فهذا رجل لم يكن خطيب منبر يقول كلمته ويمشي ولكنه من ذلك الطراز من المناضلين الثوريين الذين يؤمنون بما يقولون، ولديهم الاستعداد لأن يذهبوا الى النهاية إيمانا بما يقولون. وقد مضى زياد ابو عين الى هذه النهاية ايمانا بما يقول وكما يحدث في قصص الأبطال والمآسي القديمة والفواجع الكبرى لأبطال نادرين، فقد كان خاتمة الكلام والقول كأول القول وبدايته. قول كأنه يكتب سطر التاريخ، «هذا عدو لن يستطيع هزيمتكم ايها الفلسطينيون» نقطة وانتهى السطر الذي ظل طوال سنين حياته يكتب حروفه قبل ان يترجل البطل عن حصانه.
هذا رجل كأنه يطل علينا من زمن بعيد موغل في القدم وكأنما يذكرنا بهذا الماضي الذي كدنا ان ننساه، وقد مر خاطفاً لوهلة قصيرة شأن جميع أولئك الابطال الذين لا يعيشون حياة مديدة، كأنما البطولة أوقاتها تمر خاطفة وقصيرة كما الشهب المحلقة في السماء، وفقط يكون موتهم المبكر دوما بالقدوم هو الذي يضفي عليهم هذه الهالة الطهرانية من القداسة والإشعاع، لكيما يبعثون في موتهم قوة نورانية لشعوبهم من الإلهام.
هكذا هم الشهداء دوما في عليين جنبا الى جنب مع الأنبياء والرسل والقديسين، إلى الأعلى كأنهم النجوم الذين يضيئون للأحياء ظلمة الطريق لكيما يهتدون الى الوسيلة، وبهذا يكون دوماً في موتهم حياة. البذرة التي تحدث عنها السيد المسيح من انها يجب ان تموت في الارض لكيما تتحول في موتها الى شجرة الحياة.
لعل في قصة موته الأخير شيئاً من هذه الرمزية التي تنبعث من كلمات الاغنية القصيدة. ان البطولة كالشعر والقصيدة هكذا في اختزالها صراع الانسان الفرد والجماعي في نشدانه التماهي والتوحد بالفكرة المطلقة التي هي الجمال او الإله، في إرادة تتحدى أو تقهر المستحيل. وحيث من يخاف الموت اولا هو الذي ينهزم، لن يهزموننا هي الكلمة الرصاصة الأخيرة التي يطلقها قبل الموت، ولذا لم يستطيع أعداؤه ان يهزموه وان استطاعوا ان يقتلوه. 
توهموا من قبل انهم قتلوا ياسر عرفات واحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وابو علي مصطفى وفتحي الشقاقي والقائمة طويلة، وقد سعوا الى قتلهم جميعا لكي يتخلصوا من رسالاتهم. ولكنهم يتحملون خطيئة وعار استعباد واحتلال شعب آخر. في زمن لم يعد فيه مواصلة شعب احتلال بلد شعب آخر مقبولا وممكنا، وحيث القوة المجردة والمنفصلة عن الواقع وان اتسمت بقدر اكثر عناداً من الجنون والوحشية، لا تستطيع اخيرا ان تصمد امام قوة اضعف منها ولكنها تقف على أرضية أخلاقية عليا من التوافق مع الطبيعة الانسانية، في اسمى مثلها وقيمها حول الحق والخير والحرية ومبدأ العدالة التاريخية.
هنا في قرية ترمسعيا ما يختزل تاريخ الصراع بل وقصة البشرية، كان هذا لقاء مجرداً بين حق القوة وقوة الحق فأيهما انتصر على الآخر؟ غصن الزيتون الذي كان يحمله زياد ابو عين ويغرسه في الأرض ام بندقية الجندي وخوذته؟ هذا هو السؤال المفصلي اليوم الذي يطرح كعنوان على الجدار.
وهذا في الواقع وفي لحظة الحقيقة السؤال الكبير الذي يعاود باستشهاده طرحه علينا، وحيث وحدهم الابطال من يطرحون في موتهم مثل هذه الاسئلة الكبرى، اذا كان في الظروف التي رافقت موته ما يشي باكتمال غلق او تدوير دائرة، ما يحيل هذا السؤال الى إشكال معقد. فهل سلميّتنا ما ترمز إليه المقاومة الشعبية هي التي اقوى من الرصاص؟ ام كتيبتا الدبابات والمشاة التي سارعت للإحاطة برام الله؟ ام ان صواريخ ومدافع الهاون وانفاق المقاومة الغزية هي التي تستطيع هزيمة كتائب الجيش ومدرعاته كما حدث فعلا على حدود غزة؟ المقاومة الشعبية أم المقاومة المسلحة؟.
وقد يمكن أن تكون سيرته كما سؤاله وفاجعة موته تجسيدا رمزيا لقصة حركته حركة الفلسطينيين الأم في تحولاتها على مدى عمرها الذي يكمل عقده الخمسين بعد ايام، في انتقالها من الكفاح المسلح الى المقاومة السلمية، من البندقية الى غصن الزيتون. وربما كان هو الشاهد الأخير لجيل من المناضلين الفدائيين او الثوريين المحترفين الذين واصلوا القدرة على الاحتفاظ بهذا المزيج والاكسير النضالي النقي، بين النزعة التبشيرية في الخطاب والقول وبين الممارسة الميدانية، وهي الصفة التي تميز الثوريين المحترفين الذين يستطيعون ملاءمة أهدافهم في كل مرة وفق الظروف والأوضاع الملموسة التي يواجهونها من دون ان يفقدوا البوصلة. وبهذا المعنى كان فقدانه خسارة للشعب الفلسطيني وحركته، ولكن ربما بنفس القدر مثل علامة وشارة لهذه الحركة كما للفلسطينيين ككل عند هذا المنعطف.
ان في التوقيت والظروف التي رافقت مقتله ما يحمل ربما على هذا الشعور الجماعي بأن المعركة التي خاضها وحيدا، هي التي تحدد بعد الآن وجهة الطريق والسفر، وانه يجوز الآن ان ننظر الى فاجعة استشهاده باعتبارها فاتحة الذروة في الانتقال الى الحركة الرابعة والأخيرة، التي تأتي في التعاقب بعد الحلقات والفصول الثلاثة التي تقلبت عليها هذه المعركة منذ حزيران الماضي. من الخليل الى غزة ثم القدس وأخيراً إلى الضفة.
سوف نعلم في غضون الأيام القليلة القادمة ما تخبئه الأحداث المقبلة، ولكنه اذا استطاع هذا الرجل الذي صدم شعور كل الشعب وربما العالم باستشهاده أن يفتح معركة الضفة على مصراعيها التي هي بوابة الجحيم على الاحتلال، فإن انتصاره وانتصار الفلسطينيين يتحدد اليوم بهذا الاكتمال العبقري لانغلاق الدائرة، وحيث على الباغي تدور الدوائر. حين تصبح كل الخيارات مفتوحة وقابلة للتحقيق في مزيج من التدعيم المشترك بين الدبلوماسية والميدان، لشعب أصبح أكثر نضوجاً لاستلهام الدرس الغزي والدرس المقدسي، ولم يعد يحتمل أو يطيق الصبر، كما قال رئيسه.