ما ميَّز تجربة المقاومة الفلسطينية عن سائر التجارب العربية والعالمية مسألة جوهرية انفرد بها الفلسطينيون دون غيرهم، وهي أنهم خاضوا مقاومتهم من أجل الحرية، لكنهم ظلوا مسكونين بهاجس وضرورة إثبات وجودهم كشعب، لأنهم ظلوا تحت تهديد خطر الإلغاء وطمس الهوية الوطنية وتدمير الكيانية السياسية، من خلال الإبادة، أو التهجير أو الضم أو الوصاية.. والسبب طبيعة العدو الذي يقاومونه؛ فإسرائيل تمثّل نمط الاستعمار الإحلالي الإجلائي الذي يقوم على إلغاء الآخر، ونجاح المشروع الصهيوني يعتمد على إلغاء نقيضه المركزي، أي الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، ويرى في إنهائها شرطاً لإنهاء القضية.
بالنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى في المقاومة والتحرر، سنجد أنهم خاضوا نضالاً عسكرياً أو سياسياً أو شعبياً دون أن يتهددهم خطر الإلغاء والطمس والتهجير (باستثناء الشعوب التي تعرضت لاحتلال إجلائي، وهذا سنتناوله تالياً)، فمثلاً خاض الأمير عبد القادر الجزائري كفاحاً عسكرياً وأحرز تقدماً كبيراً، لكنه أخفق فيما بعد، وتم نفيه مع رفاقه إلى دمشق، ولم يتمكن الجزائريون من استئناف ثورتهم إلا بعد زمن طويل، وأحرزوا نصرهم نتيجة الدعم العربي، ونتيجة التغيرات التي أصابت بنية النظام الاستعماري، وانتهت بأفول فرنسا ونكوصها.
انتهت ثورة عمر المختار دون نصر، وكذلك ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب، وانتهتا بسحقهما، لكن الليبيين والمغاربة استأنفوا كفاحهم بأدوات أخرى، وفي ظل متغيرات سياسية مختلفة، فنالوا استقلالهم.
كل الشعوب التي خضعت للاحتلال والاستعمار لم يفكر مستعمروهم بنفيهم أو التخلص منهم، وهناك العديد من الثورات كانت ضد الدكتاتوريات والأنظمة العميلة والفاسدة (فيتنام الجنوبية مثلاً)، ويمكن اعتبارها ثورات داخلية، وهؤلاء أيضاً لم يكونوا معنيين بإبراز هويتهم الوطنية أو بلورة كيان سياسي، لأن مثل هذا الخطر غير موجود.
الشعوب التي تعرضت لاستعمار إجلائي (في أميركا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا..) انتهت بسحقهم، ومنعهم من بلورة أي كيانية أو هوية سياسية.. الاستثناء تمثّل في التجربة الكفاحية لجنوب إفريقيا، التي انتصرت بتغيير طبيعة نظام الحكم، دون طرد أحد، أي بالتعايش السلمي في دولة ديمقراطية.
ولو تتبعنا ظروف وعوامل انتصار تلك الشعوب، سنجد أن العامل الحاسم في انتصارهم تمثّل في تغيير بنية النظام الدولي، ونشوء معادلات سياسية جديدة، أفضت إلى تغيير الخارطة السياسية وتبدل الحلفاء وتغيّر المصالح وموازين القوى. فبريطانيا وفرنسا خرجتا من المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية، حين انتهيا كقطبَين دوليَّين وحلّت مكانهما أميركا والاتحاد السوفياتي.. ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا انتهى كإحدى ارتدادات انتهاء الحرب الباردة.
السمة الثانية لتجربة المقاومة الفلسطينية أنها مزجت بين المقاومة العسكرية وبقية أشكال المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية.. وللدقة والموضوعية ومن زاوية التحليل والنقد يجدر التمييز بين تجربة الحركة الوطنية على مدى قرن، وبين تجربة حركة «حماس» على مدى ثلاثين سنة. حيث لكل تجربة سماتها المختلفة كلياً.
لنتناول أولاً سمات الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من القرن الماضي، سنجد أنها اعتمدت أساليب المقاومة السلمية: هبّات شعبية، تظاهرات، رسائل احتجاج، تشكيل المؤتمر الفلسطيني، إصدار بيانات، تأسيس جمعيات خيرية واتحادات نقابية وممارستها للعمل السياسي، تشكيل وفود وعقد اجتماعات مع قادة العالم، اعتصامات أمام القنصليات الأجنبية، وإضرابات عمالية وتجارية أشهرها إضراب الـ36، بالإضافة إلى بروز الأحزاب السياسية، ونهوض الحركة الأدبية والثقافية.
بالنسبة للعمل العسكري، تم تنظيم مجموعات عسكرية مسلحة (مجموعة القسام، جيش الجهاد المقدس..) وهذه لجأت إلى الجبال واعتمدت ضرب أهداف محددة، بأسلحة بسيطة.
سيطر على الحركة الوطنية آنذاك هاجس البقاء والحفاظ على الأرض، والتصدي لموجات الهجرة اليهودية، ومقاومة الانتداب البريطاني. وبسبب غياب التمثيل السياسي الجامع، ومع تفشي النزعة القبلية والمناطقية، وعمليات التصفيات الداخلية، ولأسباب أخرى خارجية انتهت هذه المرحلة بالنكبة.
أما سمات الحركة الوطنية بعد النكبة فيمكن إيجازها بالتالي:
منذ البداية اعتمدت الكفاح المسلح، وتنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف محددة.. في الضفة الغربية دخلت قيادات «فتح» ونظمت خلايا عسكرية تمركزت في الجبال، وبدأت بشن عمليات فدائية اتسمت بالتخطيط الجيد، وانتقاء أهداف عسكرية، حرصت على تجنب استهداف المدنيين الإسرائيليين، والابتعاد عن مراكز التجمعات السكانية الفلسطينية، وفق قواعد حرب العصابات المعروفة، وكان تأثيرها العسكري محدوداً.. في قطاع غزة اختلف الوضع بعض الشيء، فسبب الاكتظاظ السكاني وكثافة العمليات الفدائية التي نفذتها قوات التحرير الشعبية، ومجموعة محمد الأسود من الجبهة الشعبية، وعمليات أخرى نظمتها مجموعات تابعة لحركة «فتح»، جوبهت برد عنيف جداً من قبل سلطات الاحتلال، حيث قام شارون بحملة اعتقالات واسعة، وتجريف أحياء بكاملها، وهدم مئات البيوت، وتشريد سكانها.
في الخارج (الأردن، ثم لبنان) حدثت مواجهات عنيفة بين قوات الثورة الفلسطينية وجيش الاحتلال (معركة الكرامة، العرقوب، جنوب لبنان، اجتياح الليطاني، اجتياح بيروت 1982)، مع تصعيد للعمليات الفدائية من حين إلى آخر (عمليات السافوي، دلال المغربي..)، كما استخدمت الثورة أساليب عنيفة أخرى، منها خطف طائرات، وعمليات اختطاف رهائن (عملية ميونيخ)، ومهاجمة سفارات أميركية (في الخرطوم وعمان).. ولكن سرعان ما تراجعت عن تلك الأساليب، بعدما تبين ضررها البالغ على صورة الكفاح الفلسطيني.
طوال تلك المرحلة ترافقت مع العمل العسكري حالة ثقافية متقدمة، شهدت حركة أدبية وفنية وفكرية بمختلف أشكالها وتجلياتها، وكان لها دور مهم في إعادة تشكيل وتغيير واقع ووعي المجتمع الفلسطيني، وساهمت في تقوية الحركة الوطنية. وكان للنخب المثقفة ولمؤسسات المنظمة البحثية ولإذاعة «صوت فلسطين» دور حيوي ومهم.
مع أوائل السبعينيات بدأ الاهتمام أكثر بالعمل النقابي والإعلامي، ما هيّأ الظروف لبلورة حركة نشطة للمقاومة الشعبية، تمثلت في انتخابات البلديات وتشكيل «الجبهة الوطنية»، ثم «لجنة التوجيه الوطني»، وفي مرحلة لاحقة صار التركيز على العمل التنظيمي والجماهيري.. في الأراضي المحتلة تصاعدت خلال تلك الحقبة التظاهرات الشعبية والاعتصامات والإضرابات، إلى أن بلغت ذروتها في اندلاع الانتفاضة الأولى، التي طغى عليها طابع المقاومة السلمية.
ظل الهاجس المهيمن للحركة الوطنية ضرورة حماية الكيانية الفلسطينية من خلال م.ت.ف، والحفاظ على القرار الوطني المستقل، وعدم الارتهان لأي أجندات خارجية.. أما الهدف فكان سياسياً وواضحاً: الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة.. بالنسبة للأسلوب، يمكن القول: إن الثورة جرّبت كافة أشكال النضال العنفي والسلمي والسياسي، بما في ذلك المفاوضات.
وما يُسجل لها أنها لم توجّه سلاحها إلى شعبها، وظلت متمسكة بمكانة الإنسان كجوهر ومرتكز للعمل النضالي.
سأحاول تقريب الصورة أكثر، من خلال إجراء مقاربات مع سمات حركات المقاومة الإسلامية، وهذا ما سنتابعه لاحقاً.