أطلّ شهر تشرين الأول/أكتوبر هذا العام، وقد مرّ أكثر من عامين على بدء حرب الإبادة الجماعية في غزة، وأربعون عامًا على مجزرة حمام الشط، وتسع وستون عامًا على مجزرة قلقيلية، واثنان وسبعون عامًا على مجزرة قبية، وينتهي الشهر وقد مرّ تسع وستون عامًا على مجزرة كفر قاسم، وسبع وسبعون عامًا على مجزرة الدوايمة، ومجزرة عيلبون. ومع كل مذبحة جديدة؛ تنفتح الذاكرة على مصراعيها، وينفتح الجرح على الجراح التي تنزف منذ سبعة وسبعين عامًا.
لن تنسينا المجازر المروّعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري في قطاع غزة، على مدى سنتين ونيّف، والتي يشهد العالم فصولها صوتًا وصورة منذ الأسبوع الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، العام 2023؛ المجازر التي حدثت في الشهر ذاته منذ العام 1948، وجرى التعتيم عليها طويلًا؛ بل تُذكّرنا بها واحدة إثر الأخرى.
*****
إثر كل جريمة في الحاضر؛ يكشف التاريخ عن جريمة حدثت في الماضي القريب، وأخرى حدثت في الماضي البعيد.
تذكِّرنا العبارة التي قالها وزير المالية الإسرائيلي «بتسلئيل سموتريتش» يوم 6 أيار 2025: «غزة ستدمّر بالكامل وسكانها سيرحلون»؛ بالعبارة التي قالها «موشيه ديان» (إثر اشتباك في حزيران 1953): «سأحرث قلقيلية حرثًا»؛ والتي كانت مقدّمة للهجوم الشرس على قلقيلية يوم العاشر من تشرين الأول 1953، لإخضاع أهلها والسيطرة عليهم، بسبب محاولتهم الدفاع عن أنفسهم ضد الهجمات الصهيونية المتكرِّرة، وصمودهم، ومقاومتهم بشجاعة كبيرة محاولة احتلال القرية. أما قائد الهجوم فقد كان «أرئيل شارون»، الذي قاد بعد تسعة وعشرين عامًا مذبحة صبرا وشاتيلا في أيلول 1982.
*****
وتذكِّرنا مجزرة جباليا الأولى المروّعة «كأهوال القيامة»، التي وقعت يوم 31 تشرين الأولى 2023 - والتي تسببت في شطب عوائل: أبو نصر، وأبو القمصان، وحجازي، ومسعود، وعكاشة، والبهنساوي، من السجل المدني، نتيجة إلقاء طائرات إسرائيلية سبعة أطنان من القنابل المتفجرة على حي سكني كامل يقطنه آلاف السكان الفلسطينيين - بمجزرة قبية، التي وقعت يوم 14 تشرين الأول، العام 1953، والتي تسبّبت في نسف البيوت على رؤوس أصحابها، إثر اقتحام الجيش الإسرائيلي للقرية، بعد عزلها عبر زراعة الألغام على مختلف طرقها، ثم قصفها بمدافع الهاون، وإلقاء قوات المشاة القنابل داخل البيوت، وإطلاق النار عبر الأبواب والنوافذ المفتوحة، وعلى كل من يحاول النجاة، ومع ذلك تصدّى أهلها مع رجال الحرس الوطني للجيش الإسرائيلي، رغم قلة عددهم وأسلحتهم، لكنهم ظلوا يقاومون حتى نفدت ذخائرهم وقتل معظمهم، ما تسبّب في محو عدد من العائلات من السجل المدني، منها عوائل أبو زيد، ومحمود المسلول، ومحمود إبراهيم.
*****
ارتبط ارتكاب الجيش الإسرائيلي المجازر ضد الشعب الفلسطيني طويلًا بمخطط تطهيره عرقيًا وتهجيره، هذا ما أكّده قادة دولة الاحتلال إبّان جريمة الإبادة الجماعية، وظهر كوثيقة رسمية، أصدرتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، بتاريخ: 13 تشرين الأول 2023 ، «كشفها موقع «+972» و«Local Call»، تقضي بنقل سكان غزة قسرًا وبشكل دائم إلى سيناء».
ولم يكن هذا المخطط سوى استمرار لفكرة الترحيل، الراسخة منذ زمن بعيد في الفكر الصهيوني، منذ 1882، والتي طرحت كخطط ومشاريع في الثلاثينيات والأربعينيات حتى قيام دولة الاحتلال، وجرى تنفيذها العام 1948، كما بيَّن المفكر «نور مصالحة»، في كتابه: «طرد الفلسطينيين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882-1948».
وهذا ما أكّده «ديفيد بن غوريون» (أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي) عام 1947، حين قال: «في كل هجوم يجب توجيه ضربة حاسمة تؤدي إلى تدمير المكان وطرد سكانه والاستيلاء على أماكن سكنهم»، وهو ما جرى تنفيذه عام 1948، حيث بدأ نسف وتدمير القرى العربية، وطرد أهلها، والاستيلاء على المدن وطرد سكانها؛ بناء على خطة «دالت»، التي أعدّتها قوات الهاغاناة العام 1942، واعتمدتها القيادة العليا العام 1948.
*****
كيف واجه الفلسطينيون كل هذه المؤامرات التي استهدفت ترحيلهم بل محوهم، وما زالوا يواجهونها حتى اليوم؟ جاء الردّ عبر مقاومة الشعب الفلسطيني للترحيل والتهجير جيلًا بعد جيل، والتصدّي للمؤامرات كافة، وبالنضال السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري؛ متسلحًا بحقه الذي كفله له القانون الدولي؛ بمقاومة الاحتلال الأجنبي بكل الوسائل الممكنة بما فيها الكفاح المسلح، مستنداً إلى عدالة قضيته وحقوقه غير القابلة للمساومة والتصرّف، في الاستقلال والعودة وتقرير المصير.
*****
«كيف لم ينهزموا! كيف لم ينكسروا؟! كيف دفنوا أطفالاً وأنجبوا أطفالاً وأكملوا حيواتهم؟! ثم كيف حمدوا الله على الكارثة؟!» صيحة أطلقها وأجاب عليها الشاعر ناصر رباح: «بقاء 2 مليون فلسطيني في غزة ولو على شكل لحم حي هو هزيمة لأهداف نتنياهو والمتطرفين».
نجد الإجابة أيضًا على لسان عدد من شعراء وكتاب غزة ومبدعيها؛ أكرم الصوراني: «متمسكين بالأمل رغم الألم»، وعبد الحكيم عاشور: «غزّة... ليست مكانًا فحسب، بل درسٌ خالدٌ في كيف تظلّ الروح حيّة، حتى وهي تحت الركام»، ونعمة حسن: «الحياة سيئة؛ لكن شجر الزيتون ما زال يثمر».
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com