قبل بضع سنوات، ظهر شيخ على شاشة التلفاز، ليس ليقول لنا ما نفعل وما لا نفعل، ولا ليوضح لنا الفرق بين شعيرة دينية وأخرى، ولا ليبشرنا بالجنة أو يتوعدنا بجهنم، كعادة الشيوخ والدعاة في العقود الأخيرة من زمننا العربي الأغبر، بل ليوضح لنا الغاية الإلهية من خلقنا نحن العرب. نعم، الغاية من خلق العرب تحديداً، وليس البشر عموماً، كما يمكن أن يتبادر لذهن القارئ، لو حاول أن يتذكر أقوال الخالق في كتبه السماوية، وحديثه عن خلق الناس، كل الناس.
الشيخ علق، باستهجان شديد، على بعض العرب «التافهين» الذين يريدون، أو يسعون إلى تطور شعوبهم اقتداءً بالتطور وبالعلم الذي وصل إليه الغرب، حيث قال، «بعض الناس يريدنا أن نصنع الطيارات والسيارات والقطارات، ثم ننافس أوروبا وننافس أميركا.. ما لهذا خُلقنا». لماذا لم نُخلق لهذا يا حضرة الشيخ؟ فيجيبك، «لأن الله لمّا خلقنا شعوباً وقبائل، جعل منا أصحاب فكر وهُداة، وهم (أي) العرب، وجعل من الآخرين تلامذة يهتدون بهُدانا، وعليهم العمل».. إلى آخر هذا الاكتشاف العظيم.
إذا العرب أصحاب فكر، والآخرون من الشعوب الغربية، وكل من هم خارج هذه المنطقة ولا ينتمون إلى الجينات العربية، أصحاب عمل. أي أن الفكر يتم إنتاجه في مكان، بينما العمل والتنفيذ يتم إنجازهما في مكان آخر بعيد، ومن هنا فلا علاقة ضرورية بين الاثنين. فالذي يفكر، حين يقوم بعملية التفكير، لا يحتاج لأي مُنتج مادي خارجي، وكذلك فإن من يقوم بالإنتاج المادي والصناعة، يقوم بعمله وينجزه دون أي حاجة لتأسيسات نظرية ولا لأفكار مُسبقة.
وهذا طبيعي بلا شك، فالشواهد والتاريخ يؤكدان لنا يومياً أن المخترع الغربي في بلاد الكفر، لا يحتاج لكل هرائنا، والذي نُطلق عليه تعسفاً مُسمى الفكر، لا حين يكتشف ظاهرة بيئية ولا حين يخترع طريقة جديدة في الجراحة، ولا حين يصنع صاروخاً.
المخترع الغربي لديه ما يكفيه من النظريات العلمية، ومن القواعد الفلسفية، ومن النُظم الاجتماعية والسياسية، ومن الحريات العامة والخاصة، ما يؤهله بناءً عليها أن يعمل وأن ينتج. ولديه من القوة ما يجعله يكتفي بتعريفنا كأسواق مطيعة وكمستهلكين أوفياء لبضاعته ومنتجاته.
نحن مستهلكون «أوفياء»، ولهذا لا نحتجّ على شكل الآيفون ولا على وظائفه. لا نتململ أمام مقود السيارة المُدفأ بل نهلل له. لا نقترح تغييراً على طول أجنحة الطائرة، ولا على ارتفاع مقاعدها. ليس لنا موقف حول درجة التبريد في الثلاجة ولا حرارة المكوى، لا نجادل بكوابل الفايبر ولا بصيغة العلامة التجارية. لا نقوم بتعديلات على الأسبرين أو الفياغرا، وليس لنا رأي بالفرن ولا بمكنسة الكهرباء ولا بملقط الحواجب أو مقص الأظافر.
لا مشكلة لدينا مع المُنتج المادي الغربي مهما كان، بل نستقبله ونرحب به ونُبدع في ترويجه بيننا. لكن حين يتعلق الأمر بالمُنتج الفلسفي، أو بالمنظومة الفكرية الاجتماعية التي كانت سبباً مباشراً في هذا التطور، فلا يتخلّف أحد أو يتقاعس عن إبداء الرأي، أو تأكيد الرفض وتبريره تحت شتى المسميات والعناوين.
حتى النظريات العلمية التي نقبلها مضطرين ونقوم بتدريسها في جامعاتنا، فإنها تخضع للتحريف والإضافات الفهلوية، بما يفقدها مضمونها وقدرتها على الحياة بيننا وفي بيئتنا، وبما يبقيها على صيغتها الأولى؛ شكلاً جامداً كبرواز على الحائط، أو نصّ بين دفتي كتاب، لكنه غير قابل للتطبيق العملي، لينعكس على حياة الناس العاديين.
أما الأدهى من كل ما سبق، فهو قبول العرب لبعض النظريات والدراسات التي لا تتعارض مع فكرتهم عن الحق ولا عن الأخلاق، ثم يقومون بدمجها في منظومتهم التعليمية بلا تحفظات وبلا اعتراضات، لكن حين تحين الساعة للاسترشاد بها ينسونها تماماً. وإن قمت بتذكيرهم بها بين الحين والآخر، لا يوجهون لك تقويماً معرفياً بل تهمة من تهمهم الجاهزة، والتي تعلّموها وعلّموها، جنباً إلى جنب مع هذه النظريات والدراسات.
كل ما سبق لا يعدو كونه مقدمة زائدة عن الحاجة، لو كنا في وضع يسمح بالنقاش حول الخلاصات والنتائج ويكتفي بها كبرهان. لكن طرح النتيجة وحدها يمكنه أن يقنع الحجر، ولا يمكنه أن يغير وجهة نظر مُسبقة لناشط عربي، أو مشتبك فلسطيني وجد ضالته في الحرب، وحجز لنفسه مكاناً على أطرافها البعيدة.
ولنصل إلى الفكرة، دعونا نأخذ مثالاً هرم ماسلو، أو كما يُسمى «تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات». هذا التسلسل لمن لا يعرفه، هو دراسة لعالم يدعى أبراهام ماسلو، تتعلق بترتيب الاحتياجات البشرية. لقد سميت النظرية باسم «الهرم» لأن هذا الترتيب للاحتياجات يبدأ من قاعدة عريضة تضم الحاجات الفسيولوجية الأساسية لأي بني آدم، ثم يمتد الهرم صعوداً، آخذاً الأقل فالأقل أهمية من هذه الحاجات، وصولاً إلى حاجة تقدير الذات، والتي تقف على أعلى الهرم.
الأولوية لدى ماسلو، ولدى كل من يدرّسون هذه النظرية في جامعاتنا، وأولئك الذين يعتبرونها دليلهم في منظمات المجتمع المدني، هي للاحتياجات الفسيولوجية كالطعام والشراب والتغوّط والتنفس والنوم. بعد تأمين هذه الأساسيات ننطلق صعوداً إلى احتياجات الأمان كسلامة الجسد والأسرة والوظيفة. صعوداً بعد ذلك إلى الحاجات الاجتماعية كالصداقة والعلاقات الأسرية وغيرها، ثم الحاجة للتقدير والشعور بالإنجاز، وأخيراً إلى حاجة تحقيق الذات.
هذا ما قاله ماسلو وما اتفق عليه العالم، وما يدرّسونه في بلادنا في كليات علم النفس وكليات علم الاجتماع، وهم مقتنعون به أو يبدو لنا ذلك. لكن حين يتعلق الأمر بغزة فلا هؤلاء الأساتذة ولا طلابهم، ولا نخب منظمات المجتمع المدني، ولا الفصائل التي تقدم نفسها كممثل للناس تتفق معك أن الأولوية الآن للتنفس، ثم لمنظومة مطاعيم للأطفال، وأخيراً سيأتي دورك لتحقيق ذاتك على حسابهم.
على مدار عامين، تم تخوين كل من يطالب بتنفيذ ما علّمونا إياه، وتم قلب الهرم رأساً على عقب لإرضاء غرورهم الفارغ وفكرتهم الهجينة عن العلم والإنسانية وتحمل المسؤولية. على مدار عامين، ساهم المثقفون الزائفون مع نتنياهو في إيصالنا إلى كارثة لن نشفى منها قريباً، وكان ذلك بعنتريات زائفة، ورفض وتخوين كل فكرة، وبتحالف وثيق مع أصحاب «ما لهذا خُلقنا».