بعد أن انتهيت من كتابة المقال الماضي، تذكرت رواية «باب الشمس»، فلا يعقل أن أكتب عن احتفاظ الفلسطينيين بالمفاتيح دون النظر في رواية عدها دارسون رواية النكبة التي جمع كاتبها فيها حكاياتها من أفواه اللاجئين، الرواية التي كتبها بعد أن قرأ النتاج الأدبي الفلسطيني وكتب عنه ودرسه.
سأبحث عما قصه اللاجئون عن مفاتيحهم، وسأجد فيها تقاطعات مع ما كتبه عاشور، وما كتبه ناطور، وتكمن في حضور شخصيات تحتفظ بالمفاتيح التي جمعتها أو تكتب عنها.
نزح عاشور في حرب ٢٠٢٣ من مكان إلى مكان واحتفظ بالمفاتيح. وأما سلمان فقص عن مفتاح أبو سلمى وسرد قصة طريفة هي قصة مفاتيح الشيخ عباس التي حملها عشرين عاما، ولم يخلُ السرد من التساؤل:
«ولماذا يجمعها الناس وقد حطمت أبوابها أو حرقت؟».
وهو تساؤل لاحظناه في قصيدة مريد، ويتكرر في رواية إلياس «نجمع المفاتيح؟ والبواب تكسرت». فما هي قصة الشيخ عباس؟
يقول سلمان، «صار المفتاح أغنية وأسطورة. ولماذا لا نحيك الأساطير حول مفاتيحنا الضائعة أو تلك التي ظلت في الأبواب تنتظر عودة أهلها فأكلها الصدأ وقد صدقوا أنهم عائدون بعد أيام، فتوالت الأيام والأسابيع والشهور والسنين وما عادوا؟».
انتبه الشيخ إلى المفاتيح المنسية في الأبواب، فسحبها واحتفظ بها في جيبه، وظلت تتراقص على خاصرته عشرين عاما إلى أن سقطت على الأرض بجانب جسده الذي مزقه الضبع ولم يجمعها أحد من بعده «لأننا فقدنا الأمل».
رواية خوري وشهادة سلمان نشرتا في الفترة نفسها تقريبا (١٩٩٨ و ١٩٩٩)، فهل كان الأمر توارد خواطر أم أنه استيحاء مما سمعه كل منهما من أشخاص عرفهم وأصغى إليهم؟
كتب الأول عن فلسطينيي اللجوء والثاني عن فلسطيني لم يلجأ ولكنه اهتم بمفاتيح من لجؤوا. لقد أصيبت بعض شخصيات الكاتبين بلوثة المفاتيح، والتعبير ورد في رواية خوري، فماذا ورد عن المفاتيح فيها؟
يروي الدكتور خليل على يونس الميت سريريا حكاية نعمان الناطور الذي كتب مقالا عن المفاتيح وعكا، فبكى الدكتور على المفتاح لا على عكا، وهذا مستغرب ولكن..!
نعمان فلسطيني من مواليد مخيم اليرموك، هاجر إلى الدنمارك وحصل على جنسيتها، ثم قرر أن يزور عكا مدينة والديه، وكانت أمه في المخيم تقص عليه عن بيتهم هناك، حتى حفظ تفاصيله. زار المدينة وبحث عن البيت وتعرف عليه واستقبلته عائلة فلسطينية، بعد أن استأجرته من حارس أملاك الغائبين، وعندما غادر البيت لحقه المستأجر ليعطيه مفتاح البيت، فقد أقام فيه مضطرا. رفض نعمان أخذه وقال لساكن البيت:
«لا لزوم»، «المفتاح القديم ما يزال معنا في دمشق».
تقود الحكاية هذه إلى حكايا أخرى عن المفاتيح والبيوت. تقود إلى قصة أم عيسى صافية وابنها دكتور الأدب العربي الذي تزوج في أميركا من مغربية من مدينة مكناس وذهب معها إلى مدينتها واستقر هناك ناسيا أمه وحيدة في بيروت يتراسل معها. ولم يزرها وزوجته إلا مرة. في آخر رسالة كتبها لأمه أخبرها أنه يجمع مفاتيح أهل الأندلس التي احتفظ بها الأحفاد.
«يا حسرتي علينا. صرنا نجمع مفاتيح أهل الأندلس. قال إن أحفاد أهل الأندلس الذين طردوا من بلادهم وهاجروا إلى مكناس ما يزالون يحتفظون بمفاتيح بيوتهم الأندلسية».
سيقيم عيسى للمفاتيح معرضا وسيكتب فيها كتابا «قال يجمع المفاتيح والأبواب تكسرت» وتخاطب جارتها أم حسن:
«عجبك هالحكي. قال بدو يجمع المفاتيح ويكتب كتاب. قال إنه لازم نجمع مفاتيح بيوتنا في القدس. عجبك. قال نجمع المفاتيح والأبواب تكسرت».
الدكتور خليل المحاصر في مشفى، وهو يروي الحكايات على يونس، لا يسأل عن الدكتور نعمان من أجل المفاتيح. إنه يسأل عنه ليسأله عن إمكانية الهجرة إلى الدنمارك. «لكن أم حسن لا تصدقه، فقد اعتقدت أنه أصيب أيضا بلوثة المفاتيح، وأخبرته أن بيتهم في الغابسية لا باب له، وأنه لم يعد بيتا، لأن الأعشاب أكلته..»؟
«قالت أم حسن: ابق في بيتك هنا وبلاش قصة المفاتيح.
هل تستطيع تسمية هذه الأكواخ المقبرة في المخيم بيوتا.
كل شيء هنا يتداعى ألا توافق معي يا سيد أبو سالم..؟».
خاتمة: تناول مقال الأحد الماضي بشكل لافت ونبه من كتب عن المفاتيح في غزة، في الحرب، إلى قصته معها، فتذكر ما كتب مثل د.هيا فريج التي كتبت عن المفاتيح التي بحوزتها وشكرت الله أنها أضاعت مفتاح باب غرفتها «فقد أثقلني هذا الحمل الذي ينوء به الرجال والجبال» (٧/ ٤/ ٢٠٢٤)، أو تذكر ما حدث فكتب قصته مثل الناشطة أم أيمن الصوص التي رأت أن حرب الإبادة غيرت المعايير وقلبت الموازين، فبعد أن ظل مفتاح العودة رمزا للعودة تحول إلى ذاكرة أسى وشاهد على وجع جديد (٢٠/ ١٠/ ٢٠٢٥)، بل وهناك من أرسل لي صورة لمفاتيح بيته.
(ملاحظة: متمم لمقال «لقد هدموا البيوت، فما جدوى المفاتيح؟»)