كتبت بديعة زيدان:
"كان ردّ الحاخام قاطعاً حين رفض دفن الجثّة في مقبرة اليهود، كما رفض أن يعترف بالطفلة، لأن أمّها تنكرت لكل تعاليم اليهودية مع زوجها عندما انشقت عن الكنيس وقوانينه. وكان إيلي قد شعر بالخطر بعد أن خصّص الحاخام يوم السبت من أجل الحديث عن هيرتزل وأحلام الدولة اليهودية بدل الصلاة. ولم يكن الحاخام ليتجاهل موقف إيلي بالامتناع عن حضور عظة السبت، لما فيه من احتمال نشر عدوى التمرّد لدى باقي الرعيّة. كان على الحاخام أن يجد مُبرّراً مُقنعاً كي يمنع تأثير إيلي على البقية. بعد تفكير طويل، اهتدى رجل الدين بحنكته إلى تهمة عمالة الزوجين لحساب المؤسسات التبشيرية الأجنبية.. الطائفة في حلّ من الطفلة وأبويها، قال الحاخام، ودخل مدعيّاً انشغاله للتحضير للصلاة".
و"إيلي" وزوجته "ليئا"، هما الشخصيتان المحورّيتان في رواية الفلسطيني أحمد الحرباوي "احتضار عند حافة الذاكرة"، الصادرة حديثاً عن "نوفل" (دمغة الناشر هاشيت أنطوان) في بيروت، وهما زوجان من يهود الخليل، يعيشان فيها جنباً إلى جنب مع العائلات المسلمة، بل إنهما كانا يناضلان من أجل حياة مستقرة عبر رفضٍ قاطع للصهيونية ومخططاتها، وأعوانها فيما عُرف بحكومة الاتحاد والترّقي، في فترة من فترات الحكم العثماني، وتحديداً في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
وكان "إيلي" ومن ثم "المختار" (مختار الخليل)، من أبرز المطلوبين للحكومة العثمانية ذات الصبغة الصهيونية، كونهما يرفضان مخططات الجهتين المتمثلة بفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين على مصراعيها، والسماح لليهود بالتملك دون قيد أو شرط.
وخلال مطاردة "إيلي"، تتوفى زوجته "ليئا" التي تحمل مبادئه ذاتها، بينما كانت تلد ابنتهما "ليلى".. توصي "ليئا"، وهي تحتضر بأن تكون ابنتها المولودة للتو زوجة لابن المختار، فباتت ابنة تلك الأسرة اليهودية المؤيدة للحق الفلسطيني والمناهضة للصهيونية وأتباعها من العثمانيين، في عهدة أسرة "المختار"، وكانت "ميسون" المسلمة زوجة المختار هي من رعت "ليلى" بعد أن أطلقت هذا الاسم عليها بنفسها.
"أمسكت ليئا بالحبل، ثم نظرت في عينَيّ زوجة المختار، وقالت بصوتٍ عالٍ: بقطع حبل السرّة لابنك"، وهذه العبارة ترتبط بعادة فلسطينية قديمة، حيث تهب والدة الطفلة مولودتها للزواج بأحد أبناء النساء الحاضرات من خلال قولها ذاك، وتشيع العادة بين أبناء العمومة أو العائلة الواحدة أو العائلات التي تربط بينها مصالح اقتصادية، ولم يكن حبل السرّة يقطع خارج حدود الدين أو الملّة أو حتى المدينة أو القرية الواحدة، إلا أن وهب "ليلى"، في هذه الحالة، كان مغايراً، كونها يهودية مُنحت لابن عائلة مسلمة.
بعد وفاة الأم "ليئا"، وفي ظل غياب الأب المطارد "إيلي" برفقة "المختار"، لم تجد زوجة الأخير "ميسون" أمامها إلا الاحتفاظ بالطفلة، التي رفضت نساء المدينة يهوديات ومسلمات إرضاعها، فكانت تحضر لها الحليب الصناعي لتبقيها على قيد الحياة.
إلا أن الأقدار تأبى أن تسير الأمور بالطفلة "ليلى" على ما يرام، فيسقط عريسها المفترض (ابن المختار)، وهو في السادسة من عمره عن سطح منزله على الأرض ميتاً، وتلحق به والدته "ميسون" كمداً بعد ساعات، فيدفنا سويّاً في القبر ذاته.
وهنا يلفظ الجميع "ليلى" مرّة أخرى، بل إن مصيرها كان يقترب من إلقائها في بئر، فأودعتها إحدى نساء المنطقة في عهدة غجرية، وفي التجمع الغجري تلقفتها "لمياء" الخادمة الهاربة من سيدها الإقطاعي، الذي دأب على انتهاك جسدها كما كرامتها.
و"لمياء" هذه، كانت قد هربت بتشجيع من "بريجيتا"، وهي سيدة روسية فرنسية كانت تعمل في إحدى الجمعيات التبشيرية.
تغادر "لمياء" القرية الغجرية برفقة الطفلة "ليلى" خشية أن تتعرض لمصير مشابه لما كانت تعرضت له هي، فتعثر أخيراً في رحلتها الهائمة على "بريجيتا"، التي كانت أيضاً على علاقة صداقة بإيلي والمختار وأسرتَيهما.
تُدرك السيدة الروسية الفرنسية، وعبر القلادة التي في عنق الطفلة أنها ابنة "إيلي" لكون تلك القلادة كانت تعود إلى "ليئا"، وبعد حين تغادر "بريجيتا" والصغيرة "ليلى" أرض فلسطين متجهتَين إلى روسيا، بعد أن أطلت الطفلة على والدها في لحظاته الأخيرة، دون أن يعلم أي منهما حقيقة الآخر.
وفي خضم هذه الأحداث التي تبدو اجتماعية في شكلها الخارجي، يضعنا الروائي في ضوء الظروف السياسية والأمنية وحتى المعيشية للخليل في تلك الفترة، حيث الفقر المدقع، والجوع الذي ينهش الأجساد، والظلم الذي يحيق بالعرب، دون إغفال الإشارة إلى وقائع تاريخية تمت صياغتها بلا إقحام، وبشكل يخدم السرد ويعززه، وبلغة محكمة، كما كان لتوظيف "العامية" دور إيجابي في منح الرواية روحاً أكثر قرباً للقارئ، ولأجوائها زماناً ومكاناً، وهو ما فعلته تلك الأهازيج الخاصة بمنطقة الخليل، التي كان لها حضورها اللافت بتوظيف ذكي، كما كان من الضروري الاستعانة بهوامش تشكل خارطة لفك رموز ومصطلحات الرواية، التي تتصاعد درامياً كما سردياً مع تقليب الصفحات.
"هالها حجم سحابة الجراد، فأعداده هنا أكثر بكثير من السهول، حيث كانت تقيم مع الغجر بين الجبال الغربية. عندما اقتربت من المدينة، رأت الناس منتشرين في الأراضي يلتقطون شيئاً ما ويضعونه في أكياس ورقية، لم تستطع أن تفهم ما يجري، وكأنهم يلتقطون ذرات التراب أو مسام جلدهم أو حتى رموش عيونهم المتساقطة من أثر الفاقة، رأت الأطفال يحملون التنك المعدني، ويطرقون عليه وكأنهم في احتفال، لكن أي احتفال هذا الذي يكون قوامه وجوه متعبة ومترهلة؟ لاحقاً ستعرف أنها كانت محاولة منهم لطرد الجراد وإفزاعه كي يرحل".
تحدثت الرواية أيضاً عن حكومة الاتحاد والترقي وتحالفها مع الصهيونية، وسياساتها القمعية ضد العرب وبينهم الفلسطينيون، حيث أي مناهض لهاتين الجهتين، كما حال "إيلي" اليهودي الخليلي الذي انتهى به الأمر شنقاً على يد "الأتراك" هو و"المختار" المسلم الخليلي والعشرات في إحدى ساحات بيروت، كما لم يغفل الحديث عن "السفربرلك"، أي التجنيد الإجباري في الجيش العثماني.
"مشى الحاخام نحو الباب الخارجي للكنيس، أخرج رأسه من الباب وتأكد من خلو الطريق من أي شخص غريب، أو أي شخص لا يريد له أن يكون معهم في هذا الاجتماع السرّي والطارئ. خاف أن يكون المختار ومن معه رأوا ذلك الرجل، فهو يعلم جيّداً أنهم أصدقاء إيلي المقرّبون، وأنهم كانوا يناهضون حكومة الاتحاد الترّقي، وهذا الرجل الذي في الداخل من أكبر اليهود الداعمين لها، ومعروف بعلاقاته القوية مع رجالاتها، وبالتمويل الذي يدفعونه لهم، فخبر صدور قرار بتمثيل اليهود في المقاعد البلدية في القدس أحدث ضجّة كبيرة، وعلى إثر ذلك افتضح أمر العلاقة القويّة التي تربط الاتحاديّين وناشطي الحركة الصهيونية".
وبعيداً عن التفاصيل المتشعبة، والتي احتوت عليها الرواية دون حشو زائد فيما لا يزيد على مئة وثلاثين صفحة إلا قليلاً، يمكن القول: إن الحرباوي في روايته هذه كان جريئاً، ليس فقط في اقتحامه لموضوعات لا أعتقد أن سبق التطرق إليها في السرد الفلسطيني، متناولاً مع من تلبَّس في وقت لاحق موقع "الآخر" بل "النقيض"، بشكل قد يصدم الكثيرين ممّن لا يريدون قراءة الأمور كما كانت عليه، خاصة قبل العام 1929 أولاً، ثم 1936، وليس انتهاء باحتلالَي 1948 و1967، وهو ما جعل من "إيلي" كائناً يستحيل العثور عليه الآن، فالمدينة باتت مستباحة للمستوطنين المتطرفين الذين تفوّقوا على تطرف "الحاخام" في الرواية بمراحل.
ولعل كل ما سبق هو ما دفع الروائي لأن يهدي الرواية إلى "مدينة سرق الوشاة رداءها ووضعوه فوق سرير مُدنّس ليوهمونا بأننا أولاد الخطيئة.. نحن أبناؤها المُجهضون إلا من الأمل.. سنبقى نبحث عن ملامحنا المبعثرة حتى في احتضارنا عند حافة الذاكرة".
وولدت فكرة الرواية، كما أشار صاحبها، "خلال بحث عن أغاني المدينة التراثية في ذاكرة سيّداتها"، حيث إن "دلالات الأغنيات كشفت عن بنية تحوّلات رهيبة في المدينة في تلك الحقبة"، ما خلق "الدافع لكتابة هذا العمل"، الذي استغرق بحثاً وكتابة مدة عامين، رحلت فيهما جميع تلك النسوة الملهمات اللواتي ذكرهن بالاسم، مشدداً على أن "وحدة الألم الذي حملنه كان النافذة التي تطلّ على الماضي محتضر التفاصيل".