يوهم اللبنانيون والسوريون أنفسهم بأنهم إذا نَزِلوا عند رغبة أميركا بالتخلي عن فلسطين والفلسطينيين، ودخلوا في مفاوضات مباشرة، فإنهم سيتجنبون عدوانية إسرائيل لهم وسيستعيدون أراضيهم منها. لقد فعلها غيرهم من قبل، واستعاد أراضيه، فلماذا لا يفعلونها هم لاسترداد أراضيهم.
وهم يعتقدون أيضا، دون وجود أدلة تدعم كلامهم، أن تنفيذهم لما تطلبه دولة الاحتلال بما في ذلك سحب سلاح حزب الله (لبنان)، وقبول المناطق العازلة الخالية من السلاح (جنوب لبنان، وجنوب سورية) سَيزيل الذرائع من أيدي دولة الاحتلال، وسَيحمل أميركا على إجبارها للانسحاب من أراضيهما.
والانسحاب في تقديرهم، يفتح الطريق للتطبيع والمشاريع الاقتصادية المشتركة، بالدعم الأميركي، وبالتالي إلى التقدم الاقتصادي.
لكن هذا التفكير فيه الكثير من السذاجة لأنه مَبني على ثلاث فرضيات خاطئة: الأولى أن التخلي عن فلسطين والفلسطينيين سيؤدي لنفس نتائج كامب ديفيد (1978). والثانية أن أميركا ستقف إلى جانب مطالبهما ضد إسرائيل. والثالثة أن «نزع الذرائع» سينهي اعتداءات دولة الاحتلال عليهما. دعونا نناقش هذه الفرضيات بالقليل من التوسع وبيان لماذا هي خاطئة.
كانت المساومة بالتخلي عن فلسطين والفلسطينيين مقابل استعادة أراض مُحتلة، ناجحة في حالة واحدة وهي معاهدة كامب ديفيد العام 1978 وما تبعها من اتفاقية السلام في العام الذي أعقبها. والحقيقة أنه حتى في هذه الحالة لم يكن التخلي عن الفلسطينيين كافيا لاستعادة سيناء لكن أضيف لذلك شروط قاسية أهمهما: تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق أمنية (ألف، وباء، وجيم).
في المنطقة ألف بجانب قناة السويس يُسمح للقوات المصرية بالاحتفاظ بقوات دفاعية، لكن في المنطقة باء لا يسمح بوجود سلاح ثقيل، وفي منطقة جيم (الشريط المحاذي لحدود قطاع غزة وخليج العقبة، بما في ذلك شرم الشيخ ومنطقة مضائق تيران) وبعمق 20 إلى 40 كم لا يُسمح لمصر إلا بقوات شرطة.
وهذا أيضا لم يكن كافيا لاستعادة سيناء، فالاشتراطات لاستعادتها تضمنت فتح قناة السويس لعبور السفن الإسرائيلية وتحويل مضائق تيران وخليج العقبة إلى ممرات دولية لضمان حرية وصول السفن إلى ميناء إيلات.
باختصار، مصر كان لديها أكثر من «الفلسطينيين» للمساومة عليه لاستعادة أرضها (سيناء): هي أكبر دولة عربية وجيشها كان الأقدر في حينه على مواجهة دولة الاحتلال، وكان لها قناة السويس ومضائق تيران لخنق إسرائيل اقتصاديا (يمكنها أيضا حصار إسرائيل في البحر المتوسط إن أرادت)، وبالتالي كان لديها ما تساوم عليه لاستعادة أرضها.
التخلي عن فلسطين والفلسطينيين لم يكف في حالة مصر، فكيف سيكفي في حالة لبنان وسورية.
دعونا نَتذكر هنا أن حافظ الأسد فاوض لاستعادة الجولان. بمعنى وافق على التخلي عن الفلسطينيين لاستعادة الجولان، لكن إسرائيل رفضت إعادتها بالكامل له وفشلت المفاوضات التي كان يقودها الرئيس كلينتون في اجتماع جنيف في شهر آذار 2000.
هنالك أيضا عاملان إضافيا مهمان يجعلان من فرضية التخلي عن الفلسطينيين طريقا غير مُفيد بالمطلق لاستعادة الأراضي السورية واللبنانية المحتلة:
الأول هو التقدم التكنولوجي الهائل الذي حصل في دولة الاحتلال، بفضل دعم أميركا لها، والذي جعل من تكلفة الحرب عليها أقل بكثير من السابق. ويمكنني الزَعم هنا أنه لو توفرت لإسرائيل هذه القدرات التقنية الهائلة في سبعينيات القرن الماضي لكانت قد رفضت إعادة سيناء لمصر ولكانت قد سَعت لإخضاعها بقوة النيران. ويكفي الإشارة هنا إلى خرق إسرائيل لمعاهدة كامب ديفيد باحتلالها مدينة رفح (بينما يفترض بها وفق معاهدة كامب ديفيد عدم وضع أسلحة هجومية بعمق ثلاثة كيلومترات من الحدود مع مصر) دون الاكتراث بنتائج ذلك.
والثاني هو أن دولة الاحتلال لا ترى سورية ولبنان «دولتين» ذواتي سيادة، ولكن جغرافيا فيها جماعات إثنية ودينية تتقاتل فيما بينها وتوفر لها فرصة للتوسع. لذلك شاهدنا رفض دولة الاحتلال لكل الضمانات التي قدمتها دمشق الجديدة لعقد اتفاق أمني مع دولة الاحتلال وسمعنا شروط نتنياهو لعقد مثل هذا الاتفاق: منطقة منزوعة السلاح من دمشق إلى الجولان، البقاء في المناطق التي تم احتلالها بعد سقوط نظام الأسد، دعم مطلق وحماية للحلفاء في سورية (قال عنهم الإخوة الدروز).
بالمختصر، التخلي عن فلسطين والفلسطينيين لن يعيد للبنان وسورية أراضيهما المُحتلة، ودولة الاحتلال تريد تكريس الواقع القائم في كلا البلدين (الصراع الإثني والطائفي) لقضم المزيد من أراضيهما ولإبقائهما في حالة ضعف واقتتال داخلي.
فرضية أن أميركا ستقف إلى جانب لبنان وسورية إذا ما أحسنا السلوك وانصاعا للشروط الإسرائيلية تفتقد للمنطق أيضا. متى وقفت أميركا إلى جانب العرب منذ العام 1967؟ الجواب: لم تقف ولو لمرة واحدة إلى جانبهم.
دولة الاحتلال هي التي أصرت على المفاوضات المنفردة مع كل دولة عربية على حدة، وأميركا هي من نفذ ذلك لها في كامب ديفيد بداية، ثم في مؤتمر مدريد للسلام، وما تبع ذلك.
أميركا - ترامب هي التي اعترفت بأن الجولان والقدس الشرقية أراضٍ إسرائيلية. وهي من تعهد بضمان وقف إطلاق النار في لبنان وغزة، ومن قدم الضمانات في نفس الوقت لدولة الاحتلال لخرقهما. وهي من قدم الذخائر لها لتدمير غزة ولبنان ولقصف سورية.
بل إن الأسوأ هو أن الإدارات الأميركية المتعاقبة واقعة تحت تأثير جماعات ضغط إسرائيلية أكثر تطرفا من إسرائيل نفسها.
لقد كشف مراسل القناة 14 الإسرائيلية الأربعاء الماضي أن مورغان أورتاغوس، مبعوثة إدارة ترامب إلى لبنان، كانت قد اقترحت على إسرائيل قصف المدينة الرياضية في بيروت أثناء تشييع السيد حسن نصر الله للقضاء على قيادات حزب الله.
تخيلوا، طالبت دولة الاحتلال بقتل الآلاف من المدنيين اللبنانيين بضربة واحدة من أجل قتل قيادات حزب الله!
أما فرضية سحب الذرائع، فهي أيضا خاطئة. في لبنان نفذ حزب الله ما طالبت به إسرائيل وهو الانسحاب من جنوب نهر الليطاني، لكن ذلك لم يمنعها من خرق الاتفاق آلاف المرات وقتل المئات من اللبنانيين. أو لم يتضمن اتفاق وقف إطلاق النار انسحاب إسرائيل من التلال التسع التي سيطرت عليها في لبنان خلال ستين يوما. ها قد مضى عام بالكامل ولم تنسحب دولة الاحتلال ولم تفرج عن الأسرى اللبنانيين.
وهذا هو نفسه ما يحدث في غزة. أما في سورية فإن دولة الاحتلال ولغياب المقاومة لها تقوم بتعزيز وجودها في المناطق التي احتلتها.
دعونا لا نكون سُذَجاً، حتى لو تم تجريد حزب الله وحركة حماس وجنوب سورية من السلاح، فإن دولة الاحتلال لن تغادر المناطق التي تحتلها، بل ستكرس وجودها فيها، أو ليس هذا ما قاله نتنياهو عندما تحدث عن شروطه لعقد اتفاق أمني مع سورية (المناطق التي نسيطر عليها الآن لن نغادرها، هكذا قال).
هذا هو الواقع، وهو مغاير للفرضيات التي يعتقد بها ساسة لبنان وسورية.
التخلي عن فلسطين لن يعيد أراضيهما المحتلة، وإسرائيل تريد أن تَبقى هذه الدول ممزقة بصراعات إثنية وطائفية لأن هذا ما يخدم مصالحها وأهدافها التوسعية وهي بالتالي ستسعى لإضعاف هذين البلدين، وستعمل على تهيئة الشروط والظروف التي تؤدي لتقسيمهما، وهي لذلك غير معنية بالتفاهم معهما.
إن الحل لمواجهة دولة الاحتلال، كان دائما أمام أعين الجميع ولكنهم دائما يتغاضون عنه، وهو أن تتوحد سورية ولبنان وفلسطين في السلم والحرب.
في السلم بالتفاوض الجماعي لإنهاء الاحتلال لأراضيهم؛ وفي الحرب، إذا رفض الاحتلال إعادة الأرض، وهو ما يعني تأجيل كل حديث بلا معنى عن تجريد فصائل المقاومة من السلاح قبل انسحاب الاحتلال من الأراضي التي يحتلها.