
كتب يوسف الشايب:
تُعد مونودراما "ترقص؟ أرقص!"، تجسيد الفنّان عزت النتشة وعن فكرة له، ومن تأليف مريم الباشا وإخراج كامل الباشا، وثيقةً بصرية ونفسية تتجاوز حدود العرض المسرحي التقليدي، لتقدم تشريحاً قاسياً للذات الإنسانية، والفلسطينية تحديداً، وهي تترنح تحت وطأة الصدمة المركبة، فهو لا يروي حكاية خطية، بل يقدم شظايا ذاكرة ووعي، تتجمع لتشكل مرآةً مهشمة تعكس واقعاً أكثر تهشيماً.
اعتمد العرض، (إنتاج المسرح الوطني الفلسطيني / الحكواتي) في القدس، على بنية السرد الدائري المتصاعد، حيث شكلت اللوحة الافتتاحية صرخة وجودية، فالمهرج هنا ليس للترفيه، بل هو قناع للإنسان الفلسطيني، أو المعذب بشكل عام، الذي يُجبر على لعب دور في مسرحية دموية لم يخترها، لينتقل العمل من التجريد الجسدي إلى السردية الملموسة، حيث يفتح المهرج صندوق الذاكرة الأسود، كاشفاً عن الجرح النرجسي والوجودي للشخصية: كيف تحولت براءة الطفل إلى أداة للموت؟.
ويكشف العرض، الذي احتضنته خشبة مسرح القصبة في رام الله، قبل أيام، بعدها عن الجريمة الأصلية، بحيث لم تعد المونودراما مجرد رقصة عبثية، إنّما وثيقة إدانة لاستغلال الطفولة، حيث أبدع النتشة في تجسيد دور الضحية التي تلوم نفسها، وكذلك كامل الباشا في تقديم معالجة مسرحية ذكية تقول: إن أقسى أنواع الإرهاب هو ذلك الذي يأتيك مغلفاً في "كيس" من يدِ من تحب وتثق به، ليحولك من إنسان إلى "مركز" أو "أداة".
ومن ثم يتحول المسرح إلى قاعة محكمة داخلية، فالمهرج (الواقع الحالي) يُحاكم الرجل الموازي له (الماضي/المبادئ) بتهمة السذاجة والمثالية التي أودت به إلى الهاوية، كاشفاً عن الجرح النرجسي العميق: كيف تم تحويل الإنسان إلى مجرد أداة، فيما يأخذنا النتشة والباشا إلى أعمق نقطة في الجرح، أو لحظة التعرية، وهي لحظة اكتشاف الخيانة، فالمهرج ليس مجرد شخصية هامشية، بل هو نتيجة حتمية لمجتمع ومنظومة سياسية حولت براءة الأطفال إلى وقود للصراع، ثم تركتهم يكبرون كأكياس نفايات مليئة بالذكريات المتفجرة، يحاولون النجاة ببيع الضحك الزائف بينما يبكون موتهم الداخلي.
وينقلنا العمل، بعدها، من السرد إلى الهذيان الواعي، بحيث تتكسر الأزمنة، ويتحول المسرح إلى ساحة حرب داخلية، مع إدارك المهرج الحقيقة المرعبة بأن حياته لم تكن سوى سلسلة من التنازلات ومحاولات إرضاء عالمٍ يريد محوه، قبل أن يُزج بنا في مرثية للذات الفلسطينية المعاصرة، مع تقديم تشريح قاسٍ الذي سُحِق بين مطرقة الاحتلال وسندان المجتمع والسلطة الداخلية (صبحي)، وهو شبح المهرج الذي يخلع هنا أنفه الأحمر مجازياً، ليكشف تحته وجهاً مرعوباً يركض في دائرة مغلقة، مدركاً أن المأساة ليست في الموت، بل في الحياة التي تُعاش كأنها موت مؤجل.
ويمزق النتشة والباشا بعدها المزيد من الأغشية المسرحية، ليقدما وثيقة إنسانية مرعبة عن تحول الإنسان تحت القهر من "كائن روحاني" إلى "كائن بيولوجي" يقاتل من أجل كيس سكر، ومن "ضحية" طيبة إلى "جلاد" محتمل كآلية دفاعية، قبل الإعلان عن موت البراءة، عبر تقديم النتشة لمرثية للطفل الذي بداخله، قبل أن يضعنا الثنائي أمام التفكيك شبه النهائي لشخصية "المهرج"، بحيث لم يعد مجرد وظيفة، بل فلسفة وجودية؛ فهو الكائن الذي يقتات على فرح الآخرين ليرمم خرابه الداخلي، ثم يرقص رغماً عنه لأن "العرض يجب أن يستمر"، ليغلقا الدائرة مجدداً، حيث يقرّر المهرج أن يرتدي أنفه ويرقص، ليس لأنه سعيد، بل لأن هذا هو خياره الوحيد للبقاء "واقفاً كما النخل".
وفي المقطع الختامي، تختار مريم الباشا مؤلفة العرض، كما المخرج والممثل الوحيد صاحب الفكرة، إنهاء العبثية الدنيوية بتطهير روحاني، فالمهرج، الذي فشل في أن يكون وحشاً، وفشل في أن يكون بطلاً، وفشل حتى في أن يكون مجرد سلعة، يقرر العودة إلى جوهره الأولي: "إنسان ضعيف يناجي القوة المطلقة"، وكأنهم قرروا إنهاءه بصرخة مدوية: نحن نرقص كي لا نموت، ونغني كي لا نصرخ.
وتمثل مونودراما "ترقص؟ أرقص!"، صرخة احتجاجية بامتياز، فهي إدانة لعالم حوّل البشر إلى مشاريع استثمارية، أو أدوات حرب.. إنها ليست عرضاً للترفيه، بل هي جلسة علاج بالصدمة، وكأنها تقول لنا: نحن نرقص لأننا ممنوعون من الصراخ، ونلبس أنف المهرج لنخفي وجه الضحية، ونبحث عن الله في العتمة لأن "نور" العالم خذلنا.
إنه عمل يضع المسرح الفلسطيني في مصاف التجارب العالمية التي تخاطب الجوهر الإنساني المعذب في كل مكان.